انتصارات المعارضة في شمال غربي سورية، لم تكن مقلقة لـ «حلفاء النظام» في طهران وبيروت وموسكو وحسب، بل كانت أيضاً مقلقة لـ «أصدقاء الشعب» السوري في لندن وباريس وواشنطن وبعض العواصم العربية. القلق مردّه «سقوط النظام قبل الأوان». والقلق آت أيضاً من طبيعة المنتصرين. هم ليسوا من مقاتلي «الفصائل المعتدلة»، بل من فصائل إسلامية بعضها مدرج في قوائم الأمم المتحدة كـ «تنظيمات إرهابية».
وانتكاسات النظام، لم تدفع فقط «حلفاءه» الى التحرك دفاعاً عنه وفي المناطق ذات الأولوية والمنفعة الاستراتيجية، بل دفعت أيضاً «أعداءه» الى التحرك لإنقاذه أو ما تبقّى منه، أو على الأقل منع سقوطه في ما تبقى من الجغرافيا السورية.
نعم، التحرك من «أعداء» النظام لمنع انهيار النظام. ربما بعض «الأعداء» قلق من السقوط أكثر من «الأصدقاء»، ذلك، ان القناعة موجودة لدى مسؤولين كبار في دول كبرى، بأن «النظام على وشك السقوط» وأن بداية النهاية انطلقت. وبصرف النظر عن مدى دقة هذا الاعتقاد فهذه القناعة سائدة، ليس بين محللين وصحافيين و «خبراء»، بل، بالفعل، بات مسؤولون وفي بعض الأحيان، قادة دول عظمى، يعتقدون أن «أيام النظام معدودة». هذه المرة، القناعة ليست من باب التمنيات وأدوات الضغط وفي اطار بيانات الضرورة للاستجابة الى العواطف والتحريض لإبقاء دينامية التمرد لدى المعارضة، كما كانت الحال قبل أربع سنوات، بل من جنس القناعة «المبنية» على معلومات استخباراتية في غرف العمليات التي يفترض انها تعرض وتتابع كل بقعة وحارة وشارع وعشيرة وحزب وفصيل وتنظيم في المسرح السوري.
شغلت هذه المخاوف المشتركة محرك الديبلوماسية بين واشنطن وموسكو. ما يفرقهما هو «اليوم التالي» لسقوط النظام، لكن ما يجمعهما هو الخوف المشترك المضاعف: القلق من سقوط النظام والقلق من البديل. القلق في البيت الابيض من التنظيمات الاسلامية المتطرفة والإرهابيين ليس بأقل من القلق في الكرملين من منعكسات زيادة نفوذ الإسلاميين في الشرق الاوسط وامتداده في الدول الاسلامية في روسيا الفيدرالية.
الأمل معقود في أن يكون هذا القلق بمستوى الهلع وعاملاً جامعاً بين «حلفاء» النظام و «أصدقاء» الشعب. تحرُّك وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى منتجع سوتشي الروسي للقاء الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف، للاستثمار في هذا والدفع نحو الحل السياسي والاتفاق على «اليوم التالي». انه التحرك الجدي الاول منذ انهيار مفاوضات «جنيف-٢» في بداية العام الماضي والمحاولة الجادة منذ اندلاع الأزمة بين البلدين بعد الأزمة الأوكرانية.
عنوان التحرك، إجراء محاولة معمقة للبحث عن حل سياسي قبل فوات الأوان، وعدم اضاعة فرصة جديدة قبل خروح الشظايا السورية من اصابع اللاعبين.
وينطلق هذا التحرك أيضاً من معطيات جديدة لم تكن موجودة قبل سنتين:
أولها، نكسات النظام وتراجع المناطق التي يسيطر عليها الى أقل من ثلث الجغرافيا السورية وارتفاع حدة الازمة الاقتصادية في مناطق النظام ومعاناته من نقص الموارد البشرية الراغبة في القتال وبعض التوتر والخوف في البيئة الحاضنة للنظام، اضافة الى بدء طرح أسئلة في شوارع دمشق.
ثانياً، ارتفاع حدة مخاطر «داعش» على جميع الاطراف في سورية والاقليم والعالم وسيطرته على مناطق واسعة في العراق وسورية ومحوه الحدود، اضافة الى تذبذب التوقعات في القدرة على محاربة هذا التنظيم ونجاح الاستراتيجية المعلنة بـ «العراق اولاً» و «داعش اولاً» ثم في سورية «المعقدة» التي لا يريد احد ان يتورط فيها، بحسب ما يمكن فهمه من كلام الرئيس الاميركي باراك اوباما الاخير. لكن الوقت سيحين عندما يأتي الاستحقاق: ماذا عن سورية؟ كيف يحارب التحالف الدولي – العربي «داعش»؟ وللإجابة عن هذا السؤال، هناك قناعة بضرورة وجود أمرين: حل سياسي أو بداية عملية لحل لسياسي، وقوات حليفة للغرب على الأرض. اذ تحدث «المرصد السوري لحقوق الإنسان» ان تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) يسيطر على نصف مساحة سورية.
ثالثاً، الصفقة الأولية بين ايران والغرب ازاء الملف النووي، واقتراب عقد صفقة نهائية نهاية الشهر المقبل، بالتزامن مع معاناة ايران من انخفاض اسعار النفط وتأثير ذلك على دعمها للنظام، اضافة الى الاستنزاف المالي والبشري لميليشياتها في سورية. هنا، لا بد ايضاً من الأخذ في الاعتبار ان قرب التوصل الى الصفقة النهائية للنووي، يعني الاستعداد لإمكان البدء بالبحث في الملفات الاقليمية التي لم تبحث رسمياً، وسورية على رأسها. ألم يقل الرئيس الايراني حسن روحاني ان الاتفاق الاولي «خطوة» وان توقيع اتفاق نهائي يمكن ان يفتح المجال لبحث ملفات اقليمية.
رابعاً، «عاصفة الحزم» في اليمن بشرعيتين اقليمية – اسلامية وبقرار من مجلس الامن الدولي، التي اظهرت حدود الدور الايراني في المنطقة وضرورة وقف تمدده وأهمية العقدة السورية في هذا الأمر، خصوصاً مع الحديث عن انهيار نظام إقليمي انتهت صلاحيته والبحث عن نظام اقليمي جديد.
خامساً، توتر ضمني بين موسكو والنظام السوري. نعم هناك توتر غير معلن. ليس فقط بسبب قناعة الحكومة الروسية ان النظام لم يتعاط بإيجابية مع جلستي «منتدى موسكو» وحسب، بل لأن رسالة الرئيس فلاديمير بوتين الى دمشق عبر نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف تضمّنت مقترحات بـ «إجراءات بناء الثقة» مثل إطلاق معتقلين وإدخال مساعدات إنسانية والبدء بحوار سياسي لتشكيل حكومة وحدة وطنية. هنا، نقل عن مسؤول سوري رفيع انه سأل بوغدانوف في دمشق عن «استراتيجية روسيا وتكتيكها» إزاء الازمة السورية، فكان الجواب الروسي بأن «الأزمة هي سورية، وأن الاستراتيجية والتكتيك يجب ان يكونا لدى القيادة السورية». ونصح بعدم الرهان على الدعم المالي الروسي والإيراني لـ «إعادة إعمار» سورية بعد الخراب خصوصاً ان التقديرات الروسية بأن كلفة اعادة الاعمار ستتجاوز ٣٥٠ بليون دولار أميركي، اي بزيادة قدرها مئة بليون عن تقديرات الأمم المتحدة.
سادساً، البدء جدياً بالتخوف من إمكان حصول تطور مفاجئ يغيّر كل «قواعد اللعبة». ماذا لو دخل «داعش» الى دمشق؟ ماذا لو انهارت قطعة عسكرية كبيرة؟ ماذا لو حصل انقلاب؟ ماذا لو استولى الارهابيون على اسلحة غير تقليدية؟ ماذا لو غاب مسؤولون محوريون من المشهد السوري لأي سبب كان؟
هذه العناصر، قد تدفع الى الاعتقاد بتوافر شروط الحل، لكن واقع الحال انها توفر فقط اجراء محاولة جدية للبحث عن حل في المستنقع السوري. لكن هناك عوامل اخرى تجعل منه امراً ليس سهلاً ان لم يكن متعذراً حالياً وفي المستقبل القريب، ما لم تحصل مفاجأة أو يتم وضع الملف السوري على الطاولة الدولية – الاقليمية الحارة بتداخل مع ملفات اقليمية اخرى.
بات واضحاً في الاشهر الاخيرة وربما سيتعزز هذا الانطباع مع مرور الايام، تراجع قدرة واشنطن على التأثير في الاحداث في الشرق الاوسط او تراجع الدور القيادي لادارة اوباما. كان واضحاً هذا في العراق وفي اليمن وايضاً في قمة كامب ديفيد، ولن يختلف الامر كثيراً في سورية. هناك تراجع للنفوذ الاميركي وشراهة في الدور الاقليمي في سورية. وسيزيد هذا مع بدء العد التنازلي لادارة اوباما في الخريف المقبل. تزيد القناعة المقلقة يوماً بعد يوم، بأن ادارة اوباما تتعامل مع ايران «العدوّة» على انها «حليفة» في حل ملفات المنطقة، وتتعامل مع «اصدقائها» في الشرق الأوسط على انهم ليسوا «حلفاء»… ما يشجع بعض اللاعبين الاقليميين على الإفلات من وطأة «الصداقة» ولتخفيف كلفتها الاستراتيجية في شرق أوسط متغير.
ايضاً، لا يزال الخلاف الجوهري بين اللاعبين في المسرح السوري، هو على النظام السوري الجديد او سورية الجديدة وتموضعها الاقليمي. وتقنياً، الخلاف قائم والفجوة عميقة ازاء تفسير «بيان جنيف» خصوصاً ما يتعلق بالحكومة الانتقالية ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة. وهنا، لا بد من الاشارة الى ان الاحداث اثبتت ان النظام السوري يأخذ كل شيء من الكرملين، عدا النصيحة. انها علاقة تبادلية ومتبادلة واعتماد باتجاهين.
والمسؤولون السوريون، يفاوضون حلفاءهم في موسكو ويثبتون أهمية استمراريتهم، كما يفاوضون اعداءهم في واشنطن ويلوحون بمخاطر الغياب والفراغ… والبديل المتمثل في «داعش» واخواته. أي ان بقاء مؤسسات النظام ضرورة للمصلحة الاستراتيجية الروسية وانهيارها كابوس استراتيجي لادارة اوباما من ان تتهم بأن عدم تدخلها في سورية قاد الى النتيجة التي وصل اليها تدخل الرئيس جورج بوش في العراق: انهيار المؤسسات. من هنا، تبرر موسكو استمرار تسليح «مؤسسة الجيش».
اما بالنسبة الى «داعش»، فان بعض الدول يرى فيه عدواً لا بد من استئصاله، لكن دولاً أخرى ترى في هذا التنظيم منصة لتحقيق المصالح الاستراتيجية ووضع الارضية لتغيرات كبرى في الخريطة السياسية لكل دولة وإمكان اعادة رسم الحدود. كما ان دولاً اخرى قد ترى فيه بلدوزراً لتمهيد طريق اعادة الحدود الخارجية للدول والحدود الداخلية للانظمة. علاقة المركز بالاطراف وعلاقة الدول بالجوار. وتكفي الإشارة الى سلاسة سيطرة «داعش» على تدمر التي تربط سورية والعراق وذات البعد الرمزي.
إدارة أوباما قررت البحث عن منصة لجمع هذه العناصر في خلطة تحتاج الى الكثير من الديبلوماسية والتركيز والوقت والصبر. ان تستثمر في القلق المشترك. والبحث عن تقاطعات الأجندات الدولية والإقليمية. كلّف أوباما مساعديه باختيار فكرة تأسيس «مجموعة اتصال» تضم الدولتين الكبريين (أميركا وروسيا) والدول الإقليمية الفاعلة في الملف السوري. والأمل، في ان تكون هذه المحاولة جدية قبل فوات الأوان. الأمل، في ان تضع عناصر القلق المشتركة للاعبين الدوليين والإقليميين سورية على سكة الحل الطويل وقبول انصاف الحلول… الا نكون نشهد بداية الطلاق بين الاجندتين الدولية والاقليمية في أرض الشام.
__________________________
* صحفي سوري