صُعق عشاق كرة اليد بغياب المنتخب الألماني عن بطولة أمم أوروبا لكرة اليد، التي تحتضنها الدنمارك حالياً، وهي المرة الأولى التي يغيب فيها “ناسيونال مانشافت” عن البطولة الأوروبية، التي توج بها عام 2004.
نبذة تاريخية
كما حصل مع كرة القدم مرت كرة اليد بمراحل كثيرة حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم من شعبية كبيرة في كامل أصقاع الأرض، فاللعبة اختلف المؤرخون على مكان وزمان ظهورها، لكن الثابت أن الألمان هم من قاموا بتنظيم اللعبة مثلما فعل الإنكليز مع كرة القدم، فأطلق عليهم لقب مهد كرة اليد لفضلهم في جعلها رياضة مقننة، يمارسها من يعشقها في أقصى جنوب الأرض وشمالها بنفس القوانين.
في عام 1919 قام الألماني كارل شيلينز بتطوير قواعد وقوانين لعبة كرة اليد التي ظهرت مع الدنماركي هولغر نيلسون في 1898، ومنذ ذلك التاريخ بدأت كرة اليد في لفت الانتباه وباتت ذا شعبية واسعة خاصة في ألمانيا التي أولت اهتماماً كبيراً للعبة فزاد الشغف بها، لكنها لم تنضو تحت لواء هيكل ينطمها حتى عام 1949، حين تأسس الاتحاد الألماني لكرة اليد.
تأسيس الاتحاد لم يكن إلا نتيجة تألق المنتخب الألماني، الذي فاز ببطولة العالم الأولى في تاريخ اللعبة عام 1938، التي نالها الألمان على أرضهم.
فوزهم ببطولة العالم ومن ثم تأسيسهم للاتحاد أجبر الألمان على التفكير في إنشاء دوري محلي لكرة اليد تتنافس فيه الأندية الألمانية التي اقتصر التنافس بينها في السابق على لقاءات مبعثرة ترضخ تحت علة اللااحتراف.
في عام 1965 تأسس الدوري الألماني لكرة اليد، الذي بدأ موسمه الأول بدوري الإقليمين (الجنوبي والشمالي)، قبل أن يصبح عام 1977 دورياً عاماً يضم 18 فريقاً.
مع تطور اللعبة وزيادة الإنفاق عليها خاصة في “البوندسليغا”، توقع الألمان أن يسيطر منتخبهم على منصات التتويج العالمية والأوروبية، لكن “ناسيونال مانشافت” كان يخالف كل التوقعات ويخرج خالي الوفاض أو بمركز ثانٍ أو بغياب يجرح كبرياء مهد كرة اليد، وهو ما حصل مرتين في بطولة العالم، قبل أن يصدم الألمان بغياب تاريخي هو الأول عن بطولة أوروبا لكرة اليد والتي تحتضنها الدنمارك حالياً، ومما لا يدع مجالاً للشك، أن الألمان على شدة انضباطهم وقوة إصرارهم على النجاح، بحثوا عن سبب الداء وعرفوه لكنهم وصلوا لمرحلة بلغها الإنكليز مع منتخب كرة القدم، إذ بات الإصلاح صعباً؛ فالدوري الألماني لكرة اليد يضاهي في قيمته التجارية بالنسبة للألمان، الدوري الإنكليزي الممتاز لكرة القدم، وبات التحكم فيه صعباً، ويبدو أن “البوندسليغا” خرجت عن السيطرة.
سبب البلية
من الغريب أن يكون لأمة ما، دوري قوي من كل النواحي، المادية والفنية، وتكون هذا الأمة العريقة عابر سبيل في البطولات العالمية والإقليمية، وهذا بالضبط ما يحصل مع منتخب ألمانيا لكرة اليد، والمنتخب الإنكليزي لكرة القدم، والقاسم المشترك بين الأمتين أن لهما دورياً قوياً ومنافسة شديدة تجلب الأموال وتهدم التاريخ.
الحديث عن “البوندسليغا” والضرر الذي ألحقته بمنتخب “ناسيونال مانشافت” تسرده بعض الأرقام والإحصائيات والمقارنات التي قد تبرهن على جريمة تلاعب “البوندسليغا” بالإرث الألماني في كرة اليد.
في العقد الأخير فتحت الأندية الألمانية أبوابها أمام كل لاعبي العالم على اختلاف جنسياتهم، وباتت قائمة اللاعبين في كل فريق بالتساوي بين الأجانب والألمان، وأحياناً تجد تفوقاً واضحاً للجنسيات غير الألمانية، ولو أخذنا مثالاً، ففي اثنين من أقوى أندية ألمانيا وأوروبا وهما كيل وهامبورغ نجد أكثر من 60 % من لاعبي الفريقين من جنسيات أجنبية، فهامبورغ بطل أوروبا الموسم الماضي، يضم في صفوفه 18 لاعباً، نصفهم من جنسيات أجنبية، وحتى اللاعبين الألمان الذين ينشطون بالفريق متقدمون في السن، أما كيل فتزخر تشكيلته بالعديد من النجوم الكبار في عالم كرة اليد، لكن 11 لاعباً من ضمن 17 لاعباً في تشكيلة كبير الألمان من جنسيات أجنبية.
ولو قارنا تشكيلة الفريقين حالياً بقائمتهما عام 2007، عندما توج المنتخب الألماني بلقب بطولة العالم، فسنجد سيطرة اللاعب الألماني الواضحة آنذاك على تشكيلة كل فريق، وفي المجمل فإن أرقام الموسم الحالي في “البوندسليغا” تثبت التهمة الموجهة للدوري الألماني لكرة اليد بهدم الإرث الألماني العريق في اللعبة، فمن مجموع 345 لاعباً ينشط في الدوري هذا العام نجد 153 منهم من جنسيات أجنبية، وهو رقم مفزع لأمة عرفت أن لاعبيها دائماً ما يكونون في الصف الأول بين نخبة اللعبة لكنهم باتوا متأخرين عن باقي اللاعبين الذين ينشطون في دوري بلادهم ويستفيدون من قوة التنافس في “البوندسليغا”.
أين حارس مثل هينينغ فريتز، الذي كان أفضل من حرس شباك كرة اليد على مدى 4 سنوات من 2003 إلى 2007، وأين كريستيان زيتز وتورستن يانسن أفضل أظهرة العالم في 2007، وأين السواعد التاريخية للـ”ناسوينال مانشافت” أمثال هولغر غلاندورف وباسكال هانس، كل هذه الأسماء وغيرها كانت آخر مفاخر الألمان في اللعبة.
لم تكتف “البوندسليغا” بقتل مواهب اللاعبين الألمان بل تعدت ذلك لتبدأ في إزاحة المدربين الألمان من على الساحة التدريبية العالمية، فكبرى الفرق الألمانية اليوم تعول على مدربين من خارج البلاد، ومن بين الفرق الألمانية الأربعة التي تشارك في مسابقة دوري أبطال أوروبا لكرة اليد وحده هامبورغ من يشرف عليه مدرب ألماني وهو مارتن شوالب، أما كيل فيدربه الإيسلندي ألفريو جيسلاسون، ومواطنه غوموندور غوموندسون يدرب راين نيكار لوفن، أما فلينسبورغ فيدربه السويدي ليوبومير فرانييس، وعموماً فإن 8 مدربين من جملة 18 مدرباً في البوندسليغا من جنسيات أجنبية وهو عدد كثير على بلد لم يكن في السابق يرضى بغير الكفاءات الألمانية في أنديته.
الاحتراف ليس أمراً سيئاً لأنه يعطي الدوري بعداً تنافسياً أكبر ويساهم في احتكاك اللاعبين الألمان بأكبر نجوم العالم، لكن عندما تفتح الأبواب على مصرعيها أمام الأجانب يشكل هذا خطراً كبيراً على المواهب الألمانية التي قد تبقى في ظل النجوم الأجانب الكبار، أو في الفرق التي لا تلعب الأدوار الأولى في ألمانيا وأوروبا ما يضعف موقف المنتخب الألماني أمام المنتخبات التي تستفيد من البوندسليغا أقوى دوري كرة يد في العالم.
الثابت أن الألمان يعلمون الداء ولا يجهلون الدواء، وإن غابت عنهم حكمة الإدارة فليتبعوا سياسة نظرائهم في الاتحاد الألماني لكرة القدم، الذين يعطون الأولوية للمواهب الألمانية حتى إن 75 بالمئة من لاعبي الدوري الألماني لكرة القدم يحملون الجنسية الألمانية، وهو ما عاد بالفائدة على المنتخب الألماني، الذي يجد مدربه يواكيم لوف صعوبة في اختيار تشكيلة المنتخب قبل كل بطولة.