(الانقسام الفلسطيني ليس إلا مجرد جزء من ظاهرة عربية مستشرية كالسرطان في جسد الأمة بفضل استقواء بعضها بالأجنبي، وبخاصة الأميركي، وهي ظاهرة تستفحل اليوم حد الاستقواء المعلن وغير المعلن بدولة الاحتلال الإسرائيلي)
جزيرة تايوان، أو “جمهورية الصين”، هي جزء لا يتجزأ من “الوطن” الصيني الأكبر في جمهورية الصين الشعبية، لكن استقواء “القوميين” الصينيين بالولايات المتحدة بعد هزيمتهم أمام الشيوعيين حوّل تايوان إلى دولة مستقلة مقتطعة من الوطن الأم في البر الآسيوي وكانت هذه الدولة، بفضل الدعم الأميركي، واحدة من الدول الخمس دائمة العضوية التي تتمتع بحق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي قبل أن تعيد الأمم المتحدة هذا الحق إلى صاحبه الشرعي في بيجين عام 1971.
وسوف يقوم وزير “شؤون البر الرئيسي” (أي الوطن الأم في الصين) في حكومة تايوان بزيارة وصفت ب”التاريخية” للصين الشعبية كونها الأولى على هذا المستوى منذ عام 1949 سوف تستغرق أربعة أيام قبيل منتصف شباط / فبراير الجاري والهدف كما أعلنه الوزير التايواني هو “تطبيع” العلاقات بين حكومتين لشعب واحد يعيش في دولتين منفصلتين بفضل الاستقواء بالأجنبي الأميركي.
وهذا الانقسام الوطني في الصين ليس حالة الانقسام الوحيدة الناجمة عن الاستقواء بالأجنبي في آسيا، فوجود الكوريتين مثال آخر، وتقسيم الإرث الاستعماري البريطاني في شبه القارة الهندية إلى عدة دول مثال ثالث كان الاستقواء بالأجنبي عاملا رئيسيا فيه، ولولا الهزيمة الأميركية في فيتنام التي وحدتها لكانت فيتنام اليوم شمالية وجنوبية كمثال رابع، وفي هذه الحالات وغيرها ما زال الاستقواء بالأجنبي هو السبب الرئيسي في الانقسام الوطني واستمراره وفي فشل جهود “تطبيع” العلاقات بين أطرافه.
والاستقواء بالأجنبي والخضوع لشروطه ما زال هو العامل الرئيسي في الانقسام الوطني الفلسطيني واستمراره وفشل جهود الاستجابة للمطالبة الشعبية بإنهائه، وإذا ما استمر هذا الاستقواء ربما سيطول عمر هذا الانقسام إلى عقود من الزمن كما في الأمثلة الآسيوية، وقد لا يكون من باب السخرية السياسية توقع إنشاء وزارة لشؤون قطاع غزة في حكومة رام الله ووزارة نظيرة لها لشؤون الضفة الغربية في حكومة غزة!
والانقسام الفلسطيني ليس إلا مجرد جزء من ظاهرة عربية مستشرية كالسرطان في جسد الأمة قادت إلى “الانفصال” وتمهد لمشاريع انفصال، بفضل استقواء بعضها بالأجنبي، وبخاصة الأميركي، وهي ظاهرة تستفحل اليوم حد الاستقواء المعلن بمعاهدات واتفاقيات مبرمة مع العدو التاريخي للأمة في دولة الاحتلال الإسرائيلي من ناحية، وحد تنسيق تقاطع غير معلن للمصالح معها من ناحية أخرى في تفاهمات ربما لن يمضي وقت طويل قبل أن تتحول بدورها إلى اتفاقيات موقعة إذا ما استمرت هذه الظاهرة العربية المدمرة لوحدة الأمة وكينونتها في الاستفحال.
وكان الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف في مطلع عام 2011 قد حذر من أن الأحداث التي بدأت تشهدها المنطقة آنذاك تنذر ب”عشرات السنين” من الاضطراب وب”تفكك” بلدان “كبيرة كثيفة السكان” في المنطقة.
وبدلا من مقاومة هذه الظاهرة ترتفع أصوات “نعي” الأمة باعتبار اندثارها قد أصبح حقيقة واقعة لا رجعة عنها.
فعلى سبيل المثال كتب الاعلامي العربي سامي كليب (في فضائية “الميادين” الآن وقبلها في “الجزيرة”) في صحيفة “الأخبار” اللبنانية في الرابع عشر من الشهر الماضي إنها ظاهرة تنذر ب”نهاية” وجود “أمة عربية” ليتنبأ بأن “المستقبل واضح جدا” إذ لن تكون أي دولة عربية منفردة “قادرة على البقاء من دون تدخل أجنبي”، وبأن الدول الأجنبية سوف ترسم للمنطقة “حدودا جديدة” تحل محل الحدود التي رسمتها اتفاقية “سايكس – بيكو” البريطانية الفرنسية التي جزأت المشرق العربي إلى دوله الحالية بعد الحرب العالمية الأولى بعد أن أعلن كليب “انتهاء” صلاحية هذه الاتفاقية.
وبعد عشرة أيام، كمثال آخر، وفي مقال عنوانه “تفكك المشرق” العربي، كتب بول سالم، مدير مركز الشرق الأوسط التابع لمؤسسة كارنيجي الأميركية في بيروت، ينذر بأن هذا المشرق يدخل الآن “فترة انقسام عميق” وبأن “تجربتنا” مع دول سايكس – بيكو “قد فشلت ونحن نعود الآن إلى المربع الأول” قبل أن يقتبس من الصحفي اللبناني الراحل غسان تويني قوله إن القرن العشرين الماضي كان “قرنا ضائعا” للعرب.
وفي اليوم السابق كان مدير عام قناة الجزيرة السابق، وضاح خنفر، قد فسر السبب في هذا “التفكك” في مقال له، ففي رأيه أن “المشكلة الرئيسية في الشرق الأوسط هي أنه ظل، منذ الحرب العالمية الأولى، معتمدا على قوى أجنبية وكان عاجزا عن إقامة توازن اقليمي أساسه مصالح بلدان المنطقة ذاتها، لذلك فإن أحداث العقود الماضية من الزمن تعكس مصالح القوى العظمى وتوازن السياسات العالمية” ليخلص إلى الاستنتاج بأن “السنوات القليلة الماضية قد أثبتت أن اعتماد الشرق الأوسط على القوى الدولية لم يعد مثمرا.”
في دراسة له نشرتها فصلية “ميدل ايست كوورترلي” في خريف عام 2003، غداة الغزو الأميركي للعراق، استبعد آشر سوسر، مدير مركز موشي دايان بجامعة تل أبيب في دولة الاحتلال، أن يكون عنوان دراسته تلك “انحطاط العالم العربي”، لأن عبارة “العالم العربي”، في رأيه، تعطي انطباعا خاطئا بأن الدول العربية “تعمل كمجموعة سياسية” مع أنه “لم يعد لها وجود” كمجموعة واحدة، ليقول إنه “لا توجد حتى تكتلات أو محاور لدول عربية معينة ضد اخرى، كما كان الحال في الماضي”، فكل دولة منها معنية بذاتها، “ومعظمها بالتعاون مع الولايات المتحدة، وقلة منها ضدها”، ليخلص إلى الاستشهاد بأقوال “دبلوماسيين عرب” إن “من المشكوك فيه أن يتمكن المرء من الإشارة إلى شيء مثل وجود نظام عربي جماعي، فالقليل جدا يجمع بين الدول العربية الاثنتين وعشرين غير اللغة المشتركة بينها”!
ومن المؤكد أن دولة الاحتلال الإسرائيلي هي المستفيد الرئيسي من حال التفكك العربي الراهن، ف”الانحطاط العربي” الراهن قد “عزز المكانة الإقليمية لدول الشرق الأوسط غير العربية: إسرائيل وتركيا وإيران” كما استنتج آشر سوسر قبل عشر سنوات.
والمشهد العام في حال الأمة اليوم يرقى إلى مأساة انتحار ذاتي جماعي:
فمع “دار الحرب” و”دار الكفر” يسود السلام والتعاون بينما تدور في “دار الإسلام” وفي قلبها العربي تحديدا حروب داحس والغبراء الجاهلية.
فدول “سايكس وبيكو” المتهاوية تعلن الحروب على بعضها، ويستقوي بعضها على بعضها الآخر بالأجنبي، الذي يحرض الحكام ضد بعضهم، ويحمي استبداد سلطانهم من شعوبهم، بينما يعلن دعم الشعوب ضد حكامها، ويضيّع الهوية العربية الإسلامية للوطن العربي الكبير، فيسمي مغربه “شمال إفريقيا” ويغرق مشرقه في “الشرق الأوسط” أو “الشرق الأدنى”، ويقسم المجتمعات إلى أقليات دينية وعرقية وطائفية ولغوية وحضرية وبدوية وقبلية، ويؤلب “الإسلامي” على “القومي”، و”العلماني” على “المتدين”، والليبرالي على الشيوعي، والكرد والأمازيغ والطوارق والأفارقة على العرب، والعربي الأردني على شقيقه الفلسطيني، واليمني الجنوبي على الشمالي، إلخ.، لتظل الأمة العربية — تليها شقيقتها الكردية — هي الوحيدة المجزأة بين الأمم ووطنها هو الوحيد المجزأ بين الأوطان، كشرط مسبق لا غنى عنه لترسيخ دولة المشروع الصهيوني في فلسطين، قلب الأمة ووطنها الأكبر.
__________________________________
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com