أقبل الصيف، ويخطط الكثيرون لزيارة واحدة على الأقل إلى الشاطئ. وربما تكون هذه فرصة للتفكر في أهمية الرمال للاقتصاد العالمي.
وهناك ثلاث ثورات تكنولوجية تقوم على الرمال، إحداها ما زالت في طور البدء وإن تنامت، سيكون لها تأثيرات عظيمة. والعنصر الرئيسي فيها هو مادة السيليكون، المكون الرئيسي للرمال.
وكانت الثورة الأولى في صناعة السيليكون هي صناعة الزجاج، التي بدأت منذ أكثر من مليون ونصف عام عندما اكتشف أسلافنا أهمية الزجاج البركاني، وهو زجاج أسود يتكون من الحمم البركانية.
الثورة الثانية كانت في الستينيات من القرن الماضي مع اختراع الترنزستورات ما أحدث ثورة في عالم صناعة الكمبيوترات لا زلنا نشهد ارتداداتها حتى يومنا.
أما الثورة الثالثة التي نشهد بداياتها، والتي يعتبر السلكون عنصراً أساسياً فيها، فهي في تصنيع الالواح الشمسية.
نشأت صناعة السيليكون لأول مرة في بلاد الرافدين
كان الزجاج البركاني خامة تصلح لصناعة الأسلحة والآلات الحادة، لشدة تعرج وحدة حوافه. لكن صناعة الزجاج الحقيقية لم تبدأ إلا مع ظهور الحضارات الأولى في سهول بلاد الرافدين (العراق).
والمادة الخام لهذه الصناعة، وهي السيليكون، متوفرة بكثرة، فثلثي قشرة الأرض تتكون من الرمال. كما أن مادة السيليكا هي المكون الرئيسي لكل الصخور على اختلاف أشكالها.
وتصهر الرمال على درجة حرارة 1,600 درجة مئوية، مع القليل من رماد الصودا والحجر الجيري، ثم يبرد الخليط بسرعة لنحصل على شكل الزجاج الذي نعرفه.
وذرات الزجاج حبيسة إطار واحد، لكنها تتحرك بحرية لتكون أشكالا عشوائية. لذا، فالزجاج صلب كالمواد الصلبة، في حين تتشكل ذراته بعشوائية كالسوائل.
وأصبحت هذه الخامة ذات أهمية كبيرة في حياتنا، فلا يمكن تخيل العالم بدون زجاج نوافذ، أو شاشات، أو زجاجات، أو عدسات للميكروسكوب والتيليسكوب.
كما تعتمد الكيمياء على الزجاج، إذ يشير أندريه سيلا، أستاذ الكيمياء بجامعة كلية لندن، إلى الأنابيب الاختبار والقياس والقوارير التي تملأ معمله.
ويقول سيلا إن ثورة السيليكون القادمة تعتمد على شكل مختلف تماما لهذه المادة؛ هي شرائح السيليكون التي تستخدم في الأجهزة الإلكترونية. وفي هذه الصناعة، تجرد مادة السيليكا من جزيئي الأكسجين المكونين لها، لتصبح واحدة من أنقى المواد على الأرض.
والسبب في اختيار السيليكون في هذه الصناعة هو كونها مادة شبه موصلة، يمكن التحكم في درجة توصيلها. والهدف من شرائح الكمبيوتر في الأساس هو توصيل الإلكترونات.
وبحسب سيلا، فإن صناعة المواد شبه الموصلة “قائمة على إضافة شوائب للسيليكون، بشكل يكون عوائق للإلكترونات للتحكم بها. ويمكن إغلاق وتشغيل هذه العوائق بشكل يسمح بالتحكم في الإلكترونات وبالتالي، إجراء العمليات المتعلقة ببرمجة الحواسب.”
وهذه العوائق تعرف بالموصلات (ترانزستور).
وظهرت الشريحة الإلكترونية الأولى في سبتمبر/أيلول 1958، وكانت مصنوعة من مادة الغيرمانيوم. لكن بعد عدة أشهر، ظهرت شريحة السيليكون الأولى، لتبدأ معها صناعة البرمجيات الحديثة.
ومع تطور صناعة الشرائح، تطورت إلى طبقات رقيقة من السيليكون. لذا، نجد الآن أجهزة صغيرة لها قدرات حوسبة عالية.
ويعرض معرض شركة انتل، أكبر مصنعي شرائح الحواسب من حيث الأرباح، طريقة عمل قانون مور، المنسوب إلى روبرت مور، أحد مؤسسي الشركة. وانتجت الشريحة الأولى عام 1969، وبها 1,200 موصل، وبحلول عام 1972، تضاعف عددها ليصل إلى 2,500.
واستمر عدد الموصلات في التضاعف حتى أنتجت انتل شرائح رقيقة من السيليكون تحمل ملياري موصل. وما زال من غير المعروف المدى الذي قد تصل إليه هذه التكنولوجيا.
ويقول مارك بوهر، المسؤول عن تطوير الشرائح في انتل، إنه يتذكر ما قاله الخبراء بأنه “لا يمكن صنع أجهزة أصغر من مئة نانومتر في الحجم. والآن، نصنع أجهزة بحجم عشرة نانومتر، ولا يمكننا توقع نهاية لتطور هذه التكنولوجيا”.
ولتقريب الصورة، لك أن تتخيل أن خلية الدم الحمراء الواحدة في جسم الإنسان قطرها أربعة آلاف نانومتر.
لكن بوهر أشار إلى أن العمل بتقنية النانو له عيوبه، وقد يتسبب في ظاهرة تعرف باسم “النفق الكمي”، إذ تصبح الدوائر صغيرة بدرجة تصعب تحديد مكان الإلكترونات.
وتتحرك الإلكترونات بين العوائق بشكل يتسبب في مشاكل عدة، كتسريب الطاقة من الشرائح. كما قد تؤدي لسخونة الشريحة أو توقفها عن العمل.
واضطرت شركات الحواسب إلى إعادة تصميم الموصلات، واستخدام مواد جديدة وطبقات أكثر تعقيدا. إلا أن بوهر أشار إلى أن مواجهة هذه التحديات ليست بنفس قدر الزيادة في سرعة الشرائح. لذا، لم تتطور الحواسب المكتبية كثيرا خلال السنوات العشر الأخيرة، في حين يمكن دمج إمكانياتها الحوسبية في هاتف ذكي صغير.
وأضاف أننا قد نحتاج إلى تكنولوجيا جديدة في المستقبل إن استمرت الشرائح في الانكماش. فمثلا قد يتحول التركيز من تركيز أكبر عدد من الإلكترونات داخل الشريحة إلى التحكم في نموذج هذه الحركة.
صناعة الألواح الشمسية
يستخدم السيليكون في قلب صناعة الألواح الشمسية، ليكون بذلك فاعلا في الثورة التكنولوجية الثالثة
ويقول بوهر إنه حتى الآن، تثبت الدوائر على شرائح ثنائية الأبعاد. وإن أمكن تطوير شرائح ثلاثية الأبعاد في المستقبل، ستعتبر هذه نقلة في إمكانيات التوصيل بدرجة تجعل من الممكن للشرائح العمل كعقل الإنسان.
لكن يبقى سؤال إن كان السيليكون سيحتفظ بمكانته في صناعة التكنولوجيا، إذ يجري البحث عن بدائل أخرى مثل الغاليوم والكربون والإنديوم. إلا أن توافر السيليكون و تكلفته الزهيدة قد تبقيه في قلب هذه الصناعة.
كما سيبقى السيليكون في قلب الثورة التكنولوجية الثالثة، التي أصبحت من أكثر الصناعات نموا في الولايات المتحدة، وتوفر عشرات الآلاف من الوظائف، وهي صناعة الألواح الشمسية. ولم تكن صدفة أن تنمو هذه الصناعة في “وادي السيليكون” حيث تقع أهم الصناعات التكنولوجية، تماما كالحواسب.
وكان أول المستفيدين من هذه الصناعة هم “الهبيز” الذين يزرعون الحشيش المخدر، وليس المهتمين بالتكنولوجيا.
وكان أحد هؤلاء، ويدعى جون سكافير، هو أول من اتجه إلى الاستفادة من طاقة الشمس. وسريعا ما أدرك حاجة أقرانه إلى المجاريف والعدس، ففتح متجرا عاما. حتى أتاه رجل في سيارة بورش يعرض عليه نوع جديد من الأعمال.
يروي جون ضاحكا: “لقد جذب اثنتين من الخلايا الكهروضوئية التي انقذها من برنامج الفضاء”
وأضاف: “قمنا بتوصيلهما، وبسرعة بدأ هؤلاء الشباب المشردين “الهيبيز” في التدفق من الغابة على المتجر وأعجبوا بهذه الأشياء لدرجة الجنون”
هذه الألواح الشمسية الأولى كانت متواضعة للغاية بالمعايير الحديثة.
وعند قوة 9 واط يمكنهما بالكاد أن يمدا بالطاقة بطارية صغيرة للغاية وقام ببيعهما بـ 900 دولار، لكن زبائنه كانوا أثرياء بسبب الربح الذي يحصلونه من مزارع الإصيص خاصتهم، وفي غضون أسابيع قليلة باع نحو ألف من تلك الألواح الشمسية.
ويتذكر جون، وهو لا يزال يضحك من تفاهة الأمر كله: “قبل وقت طويل من هذا، أرسلت شركة أركو سولار، وهي أول شركة للطاقة الشمسية في لوس أنغلوس، مسؤولين كبار منها على متن طائرات لرجال الأعمال، إلى هذا المتجر العام للشباب الهيبيز في منطقة ويليتس لاستكشاف ماذا يحدث هناك”.
لكن لسوء الحظ، فإن بقية العالم لم يكن بهذه الدرجة من الثراء أو المثالية. وبعد هذا الاهتمام الكبير في البداية، فإن تطور الصناعة كان عملا مضنيا وبطيئا للغاية.
وكانت المشكلة هي أن الألواح الشمسية الأولى كانت مرتفعة الثمن للغاية.
تركيب الألواح الشمسية
نحن نعلم بالفعل إن قانون “مور” أدى إلى زيادة تصاعدية في عدد الترانستورات “الموصلات” على شرائح السيليكون. حسنا، فإن قانونا تصاعديا آخر يشرح لماذا انخفض سعر الألواح الشمسية مئات المرات، منذ أن توقف الرجل صاحب السيارة البورش أمام متجر جون للمرة الأولى.
هذا القانون تمت صياغته من جانب مهندس ورائد في مجال الخلايا الكهروضوئية يسمى “ديك سوانسون”، كنت قد قابلته في مصنع بوادي السيليكون حيث كانت شركته “صن باور” تنتج الألواح الشمسية.
ويشرح سوانسون أنه مثل رقائق الحواسيب، فإن الخلايا الضوئية تستغل حقيقة أن السيليكون النقي من أشباه الموصلات.
ويقول: “السيليكون لديه الخاصية الرائعة أنه حينما يضربه الضوء، فإنه يمكن أن يطرق الالكترونات التي تربط بين الذرات معا”.
وبذلك تكون هذه الألكترونات حرة الحركة في هذا المحيط، ويمكنها التحرك من حافة إحدى الرقائق إلى الأخرى.
ويقول سوانسون: “إنها لا تعلم أين من المفترض أن تذهب، لذلك فإنها تتجول بلا هدف”.
وباعتباره مصمم خلايا ضوئية، فإنها وظيفته أن يعطي هذه الألكترونات شعورا بالهدف.
ويقول: “نضع مواد على سطح الخلية، وإذا اقترب منها ألكترون، فإنها تسحبه إلى الخارج”
وكل ألكترون يضربه ضوء الشمس إلى الخارج يترك ما يسميه سوانسون “ثقبا”.
ويضيف سوانسون: “كل الفكرة في تصميم خلية شمسية فعالة، هو أن نقنع الألكترونات بأن تشكل شبكة واحدة وأن تشكل الثقوب الشبكة الأخرى”.
والتحدي الرئيسي للمهندسين هو أن يفعلوا ذلك ويطوروه بشكل أكثر كفاءة وأقل تكلفة.
ويحمر وجه سوانسون من الخجل، حينما أذكر “قانون سوانسون”. إنه لا يريد أن ينسب فضلا لنفسه، لكنه كان أول شخص يكتشف إمكانية انخفاض أسعار الطاقة الشمسية بشكل سريع.
ويقول: “إذا نظرت إلى الثلاجات، الأقلام الرصاص أو الطائرات، جميعها تتجه إلى الانخفاض في التكلفة، عندما تصنع كميات أكبر منها لأنك تتعلم كيف تخفض النفقات، كما تزداد كفاءتك كلما زادت الكميات المنتجة”.
وكما يتنبأ قانون مور بزيادة تصاعدية في عدد الترانزستورات “الموصلات” على الرقاقة، فإن قانون سوانسون يتوقع انخفاضا تصاعديا في سعر الطاقة الشمسية.
ويتنبأ قانون سوانسون بأنه كلما تضاعف عدد الخلايا الشمسية المصنعة حول العالم، كلما أدى ذلك لانخفاض بنسبة 20 في المئة في تكلفة إنتاجها.
وأثبت هذا القانون دقة كبيرة أيضا، وانخفضت الأسعار بسرعة هائلة، وبعدما كان سعر الواط الواحد من الطاقة الشمسية 100 دولار في السبعينيات من القرن الماضي، أصبح أقل من دولار واحد للواط حاليا.
ويعد الانخفاض المتسارع في السعر، هو السبب في أن صناعة الطاقة الشمسية تبدأ حاليا في الانطلاق، لدرجة يمكن معها أن نستخدم مصطلح أن الطاقة الشمسية قد وصلت إلى مرحلة “تكافؤ الشبكات”.
وهذا يعني أن الأماكن المشمسة، التي تكون فيها تكلفة توليد الطاقة الكهربائية مرتفعة نسبيا، مثل هاواي، كاليفورنيا، اليابان أو إيطاليا، فإن تكلفة توليد واط واحد من الكهرباء عبر الخلايا الشمسية، ستكون مقاربة إلى حد كبير إلى تكلفة توليد الطاقة من الفحم أو الغاز أو الطاقة النووية.
ووفقا لديك سوانسون، فإن هناك مجال لخفض تكلفة إنتاج الطاقة الشمسية أكثر من ذلك، فهو يعتقد أن تكلفة إنتاج الواط الواحد قد تنخفض إلى 35 سنتا.
وهذا يعني أن الشمس قد تمدنا قريبا جدا بكميات ضخمة ورخيصة من الطاقة، خالية من مظاهر التلوث التي تصاحب كافة أشكال توليد الكهرباء الأخرى.
الآن سيصبح هذا الأمر ثوريا بالفعل، وكل الفضل في ذلك يرجع إلى الإمكانيات المدفونة في رمال الشاطئ الذي قضيت فيه إجازتك.