صدر أخيراً عن «مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجيّة»، كتاب «الحروب المستقبلية في القرن الحادي والعشرين». ويضم عدداً من البحوث المهمة، يبرز منها ما تضمّنه الفصل الثاني الذي وضعه الباحث البريطاني جون باسيت، تحت عنوان «حرب الفضاء الإلكتروني: التسلّح وأساليب الدفاع الجديدة».
ينطلق الباحث من أن العمليات العسكرية في الفضاء الإلكتروني («الفضاء السبراني» Cyberspace) تُعد أحد المظاهر المستجدة في الحروب المعاصرة. وتندرج في قائمة الأسلحة الفاعلة في ذلك الفضاء الافتراضي، عمليات الدفاع عن شبكات الاتصالات، وجمع المعلومات الاستخباراتيّة، واستهداف المعنويات، وهجمات إلكترونيّة هدفها اختراق سلاسل الإمداد اللوجستي للوحدات المقاتلة على الأرض، واستغلال السلوك البشري على رغم كونه المجال الأشد خطورة والأكثر استعصاءً على الفهم، وزرع البرمجيات الخبيثة بهدف شلّ النُظُم الرقميّة عند الطرف الآخر وغيرها.
الأرجح أن أسلحة الفضاء الإلكتروني المتطوّرة و «العالية التأثير»، تملك وزناً استراتيجيّاً. ويضاف إلى ذلك، أنّ الانتشار المتزايد والواسع للمعرفة التقنية، والتوزيع من دون عائق للتكنولوجيّات المتّصلة بالفضاء الإلكتروني، يؤديان إلى انتشار أسلحة الفضاء الإلكتروني «المنخفضة التأثير» في صورة غير مقيّدة. كذلك، يحمل تطوير هذه الأسلحة ونشرها في شكل سريع في طياته تهديداً يفوق كثيراً الجهود الدوليّة المبذولة لتأمين الفضاء الإلكتروني وجعله مجالاً مفتوحاً للجميع.
البيئة المتغيّرة
أدى ظهور شبكة الإنترنت والفضاء الإلكتروني وتطوّرهما، إلى إحداث ثورة تكنولوجية غيرت المجتمع والأعمال التجارية والأعمال الحكومية في العالم. وعلى رغم ضخامة المكاسب الناجمة عن هذا التطور، فإنّ التهديدات المترتبة عليه تزايدت بالسرعة ذاتها، على أقل تقدير. وفي العقد الماضي، برز الفضاء الإلكتروني بوصفه بؤرة مخاوف تتعلق بالأمن. إذ تضاعفت التهديدات التي يواجهها أمن الفضاء الإلكتروني، وتعاظمت تكاليف الاستجابات المناسبة لها بسرعة تفوق قدرة الحكومات على التعامل معها.
وعلى نحو متزايد أيضاً، تصدر أمن الفضاء الإلكتروني أجندات الأمن القومي للحكومات. ولعل أحد أبرز الأدلة على ذلك، التركيز على أمن الفضاء الإلكتروني في استراتيجية الأمن القومي للحكومة البريطانية في العام 2010. فطوال العقد الماضي، صار حجم التهديد في الفضاء الإلكتروني أشد جلاءً للمملكة المتحدة. وكما أوضح إيان لوبان، مدير المقر الرئيسي للاتصالات الحكومية في «مركز التميز في مجال أمن الفضاء الإلكتروني في بريطانيا»، فإن المملكة المتحدة باتت تواجه هجمات غير مسبوقة في الفضاء الإلكتروني. وتتسارع أيضاً وتيرة تلك الهجمات، ويتقدم مستوى تعقيدها، إضافة الى كونها تتراوح بين نشاط إجرامي خفيف المستوى، وعمليات لوجستيّة فائقة التطوّر.
كذلك، أفادت تقديرات «استراتيجية الأمن القومي للملكة المتحدة» للعام 2010، بأن هجمات الفضاء الإلكتروني تمثل أحد التهديدات الأمنية الأربعة الأكثر خطورة التي تواجهها بريطانيا، إلى جانب الإرهاب، والصراعات الإقليمية، والكوارث الطبيعية. وأثناء فترة التقشف المالي، أضافت الحكومة البريطانية قرابة 650 مليون جنيه استرليني إلى التمويل المتاح خلال الفترة ما بين عامي 2011 و2015، لتعزيز أمن الفضاء الإلكتروني للمملكة المتحدة. ولا تمثّل بريطانيا نموذجاً متفرّداً، بل تعكف الحكومات الأخرى على اتخاذ تدابير مماثلة.
قتال في الفضاء الافتراضي
غيّرت العمليات في الفضاء الإلكتروني طبيعة حرب المعلومات فعليّاً، بل شرعت في تغيير طبيعة الحرب كلها. ويمكن تصنيف العمليات العسكرية في الفضاء الإلكتروني في 4 فئات منفصلة تتضمن أربعة أهداف متداخلة. يأتي أولاً، جمع المعلومات الاستخباراتية بهدف الحصول على معلومات عن بيانات العدو الإلكترونيّة. ويظهر ثانياً، دور البيانات عن الشبكات و/أو الناس، بمعنى جمع المعلومات الاستخباراتية حول خطط عدو ما وقواته وانتشارها قبل بداية العمليات العسكرية. وتحلّ ثالثاً، مسألة التمكّن من الحصول على تقييم أدق للأضرار الحاصلة بفعل هجمات عسكرية على قوات العدو وعتاده. وتأتي رابعاً، العمليات التي تستهدف المعنويات، بمعنى إلحاق الضرر بالروح المعنوية وإرادة القتال لدى شعب العدو عبر الدعاية والتضليل المعلوماتي وغير ذلك من تقنيات حروب المعلومات.
وفي سياق مشابه، تشمل حروب الفضاء الإلكتروني عمليات هجومية تستهدف إلحاق الضرر ببيانات العدو وشبكاته الإلكترونيّة أو تعطيلها، وكذلك إلحاق مزيد من الضرر المادي بأفراد العدو وعتاده.
وفي مثل مباشر، من المستطاع استخدام عمليات الهجوم الافتراضي لإضعاف دفاعات العدو الإلكترونيّة (كشبكات الدفاع الجوي)، وإضعاف قيادة العدو واتصالاته العسكرية، وتعطيل منشآته وبناه التحتيّة بهدف التأثير فيه عسكرياً أو سياسياً. وكذلك، من الممكن استعمال الفضاء السبراني في تنفيذ عمليات دفاعية هدفها حماية البيانات الإلكترونيّة والشبكات الخاصة بالدولة من جهة، والحؤول دون إلحاق الضرر بالشعب والممتلكات الرسمية والخاصة من الجهة الثانيّة.
وربما يجد محللو نظم الدفاع العسكري ذلك النوع من النشاطات غريباً وغير متوقع، لكنه يمثّل أمراً تطوّريّاً، كما بات شائعاً الاعتراف بفاعليته في المقاربات الاستراتيجيّة العسكريّة المعاصرة.