الفكر العربي ما زال يهاب سوسيولوجيا الثقافة

في الزمن العالمي الراهن حين يبدو الإرهاب واحداً من العناصر المقلقة للمجتمعات، وفي ظل تزايد منطق العنف الذي يكاد يلف هذا العالم، المتقدم منه والمتخلف، يولي باحثون سياسيون واجتماعيون اهتماماً بقراءة منبع هذا العنف، وهل يكمن فقط في الاحتقان السياسي والاقتصادي والقمعي؟ ام ان عناصر ثقافية (ايديولوجية) تكمن وراء تأجيج منطق العنف هذا وتعطيه شرعية تبرر اعمال القائمين به؟ السؤال أو الجواب بات صريحاً عند المنفذين وفي البلدان التي هي هدف للعنف، ويتركز على اختلاف القيم والثقافات والتهديد الذي يصيبها، بما يبرر الهجوم المضاد لحمايتها. وقد ازدادت في السنوات الأخيرة الدراسات التي تربط بين الصراعات السياسية والاجتماعية والخلفية الثقافية التي تحكمها، من بين هذه الدراسات كتاب «مدخل الى سوسيولوجيا الثقافة» لكل من ديفيد انغليز وجون هيوسون. صدر الكتاب عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» بترجمة لما نصير.

يشير الكاتبان في مقدمة بحثهما الى ان القضايا الثقافية «لا ترتبط بالعدائية والمعارضة دائماً، فهي ترتبط بالانسجام النسبي وعلاقات التعاون بين البشر أحياناً. فالعوامل الثقافية مثل الأفكار والمعتقدات والقيم هي التي تحدد هوية الفرد وشخصيته، وتجعله جزءاً من الحياة الكلية للجماعة التي ينتمي اليها. ولعل من الطبيعي ان تقع خلافات داخل الجماعة الواحدة، كما يحدث في الجماعات التي تنتمي الى ثقافات مختلفة، ولكنها حتماً لا تأخذ المنحى المتطرف». وانطلاقاً من هذه الرؤية تبدو الدراسات السوسيولوجية للثقافة مسألة في منتهى الأهمية، وذلك لفهم الجماعات والمجتمعات معاً، ولاستيعاب الأحداث التي تدور من حولنا، وفهم علاقات القوى داخل هذه الجماعات والمجتمعات، ما يجعل من المستحيل فهم الحياة الاجتماعية والإنسانية ما لم نفهم العوامل المختلفة المحيطة بالجوانب الثقافية.

 

إعلان

ايديولوجيا ومفاهيم

على امتداد ثمانية فصول تناولت عناوين متعددة، عالج الكاتبان موضوع الثقافة من جوانب مختلفة. لا ينتقص من اهمية المعالجة كونها تناولت مجتمعات اوروبية وأميركية احتلت فيها الثقافة دوراً مركزياً في انتاج المدارس الثقافية وتكوين ايديولوجيا قائمة بذاتها حول هذه المفاهيم. لا يتطرق البحث الى العالم النامي، حيث يحتل فيه نقص الثقافة او التشوهات التي تصيبها، حيزاً من البحث، وإن كنا نرى المعالجة غير المباشرة لهذا الجانب عندما يجري الحديث عن العولمة والثقافة والاختراقات التي طاولت هذه المجتمعات.

تناولت فصول الكتاب المسائل الآتية: علم الاجتماع الكلاسيكي خصوصاً من خلال تناول الماركسية للثقافة التي اعتبرتها بمثابة ايديولوجيا، وردود فعل السوسيولوجيا الألمانية على الفكر الماركسي، ثم دراسات دوركهايم حول الثقافة، ومدرسة فرانكفورت ونظرياتها حول الثقافة خصوصاً، مسألة التعاطي مع الثقافة باعتبارها صناعة تتجلى أساساً عند تناول الجوانب الفنية من سينما ووسائل اتصالات متعددة. ويصف الكتاب الثقافة الجماهيرية في الولايات المتحدة الأميركية بأنها تراجيديا بكل معنى الكلمة، مقابل المنحى الأدبي للثقافة الإنكليزية. اما في فرنسا، فيولي الكتاب أهمية لما أنتجه بيار بورديو في الجانب السوسيولوجي للثقافة، والتركيز على الرموز، وعلى الاختلافات في ثقافة الطبقات الاجتماعية.

تخترق العولمة ونتائجها الثقافية كل فصول الكتاب. لم يعد ممكناً اليوم دراسة التطور الثقافي والتحولات المتصلة به في مجتمع من المجتمعات بمعزل عن النتائج التي تركتها الثورة العلمية والتكنولوجية في العصر الحديث، والتي كانت العولمة أبرز نتائجها وتجلياتها. ما لا شك فيه أن العولمة، بمضمونها الواسع والشامل وتوظيفها للثورة التكنولوجية في كل الميادين، جعلت العالم مكاناً مترابطاً بشكل شامل، بل اكثر من ذلك حولته الى «قرية صغيرة» بحيث يمكن التواصل بين شعوب العالم بشكل سهل جداً. لكن السؤال عن العولمة والثقافة يظل متمحوراً حول التحولات التي أدخلتها العولمة على الثقافة. يحتل موضوع «الاغتراب والتضامن» حيّزاً في النقاش الذي خاض فيه الكاتبان حول العولمة والثقافة.

يشير مفهوم الاغتراب إلى حالة يكون فيها الأفراد منعزلين اجتماعياً ومرتبكين ثقافياً. اما مفهوم التضامن، فهو يشير الى حالة يشعر من خلالها الأفراد بأنهم جزء من احد أشكال المجتمع ثقافياً واجتماعياً. «وقد تعد الحداثة وفقاً لهذين المفهومين، إما مجتمعاً يتصف بالفوضى وعدم الترابط، وإما نظاماً اجتماعياً تتكون فيه أشكال جديدة للمجتمع المحلي». هذه الحداثة التي انتجت العولمة، ألقت وتلقي تقاليد ثقافية قديمة جانباً لمصلحة تقاليد جديدة، وتنتج طرقاً ووسائل متعددة لهدم القديم في سياق عملية التغيير والإبداع. تتوسع مظاهر عدم الأمان التي يشعر بها اليوم كل فرد في العالم، ولا يقتصر هذا القلق على الأمان الوظيفي، ولكن الخوف يطاول خضوع الأفراد «أكثر وأكثر لحالة متوقعة من الاضطراب والهيجان».

تقود فكرة وجود «ثقافة عالمية» الى مسألة التجانس والاختلاف في العالم، انطلاقاً من سؤال مقلق: هل تتلاشى في ظل العولمة الاختلافات الثقافية في أنحاء العالم ام تزداد؟ يجري التركيز في هذا المجال على «الثقافة الجماهيرية» خصوصاً في أشكالها الأميركية التي غزت العالم من دون استئذان. من صناعة السينما والمسلسلات التلفزيونية الى الدعاية للمنتجات الاستهلاكية الى البرامج الترفيهية وغيرها، بات العالم أسير هذا الغزو الاستهلاكي الذي كاد ان يوحّد العالم تحت سلطته، مطيحاً الاختلافات الموضعية الموجودة في كل مجتمع. تحاول مجتمعات كثيرة مقاومة هذا الغزو الثقافي والاستهلاكي، منها ما ينجح الى حد ما في هذه المعركة، ومنها ما يفشل فشلاً ذريعاً، لكن الغالبية التي بدأت تفرض نفسها هي ما يطلق عليها «التهجين الثقافي» حيث تمتزج الثقافات المحلية بالثقافة الاستهلاكية الواردة.

إذا كان النقاش حول الثقافة وتحولاتها يغلب عليه «الطابع الغربي»، فإنما يعود ذلك الى التقدم الذي قطعته هذه المجتمعات في تطورها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وإلى الحرية الفكرية التي تسمح للباحثين في مناقشة قضايا مجتمعهم بعيداً من رقابة السلطات. تفتقر مجتمعاتنا العربية، الى حد بعيد، الى البحث السوسيولوجي، سواء في ميدان الثقافة ام في ميادين اخرى، حيث ينظر الى مثل هذه الأبحاث نظرة عدائية لكونها تكشف مظاهر الخلل في مجتمعاتنا، وتضع النقاط على أسباب هذا التخلف الذي تتحمل السلطات الاستبدادية حيزاً أساسياً في المسؤولية عنه.

+ -
.