النبوءة الأخيرة لهارون الرشيد

في الأيام الأخيرة من حياة الإنسان، قد تتوهج الروح، وتتمكن من التنبؤ في اليقظة والنوم، كما تتوهج الشمعة قرب نفادها.

غالبا ما تصدق تلك النبوءات، وتأتي كفلق الصبح. من يتصفح كتب التاريخ يقابل تلك الظواهر كثيرا. أعجبها ما ورد في الجزء الثاني عشر من “تاريخ الطبري” عن رؤيا هارون الرشيد قبيل وفاته.

وبغض النظر عن الانقسام الواضح بين المؤرخين حول ذلك الخليفة، فمنهم من يراه زنديقا ماجنا، لا يكاد يفيق، بينما يراه آخرون مصليا عابدا، يحج عاما ويغزو عاما. نحن ننحي فكرة كونه من أولياء الله المكاشفين، ونميل إلى فكرة التوهج الروحي التي بدأنا بها المقال!

إعلان

إعلان

إعلان

يقول الطبري، حكي جبريل بن بختيشوع، طبيب الرشيد الخاص قال:

“دخلت عليه في غداة يوم فسلمت، فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته عابسا مفكرا مهموما! فقلت يا سيدي جعلني الله فداك، ما حالك هكذا، أعلة فأخبرني بها فلعله يكون عندي دواؤها، أو حادثة في بعض من تحب، فذاك ما لا يدفع ولا حيلة فيه إلا التسليم. أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك من ذلك.

قال يا جبريل، ليس غمى وكربي لشيء مما ذكرت ولكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه! وقد أفزعتني وملأت صدري، وأقرحت قلبي!

فدنوت منه فقبلت رجله، وقلت:

أهذا الغم كله لرؤيا، إنما تكون من خاطر أو بخارات رديئة أو من تهاويل السوداء، وإنما هي أضغاث أحلام.

قال، سأقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري هذا، إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها، لا أفهم اسم صاحبها، وفي الكف تربة حمراء، فقال لي قائل أسمعه ولا أراه: هذه التربة التي تدفن فيها!

فقلت: وأين هذه التربة؟ قال: بطوس.

وغابت اليد وانقطع الصوت.

فقلت: يا سيدي هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أحسبك أخذت مضجعك ففكرت في خراسان، وحروبها وما ورد عليك من انتقاض بعضها قال: قد كان ذاك.

قلت: فلذلك الفكر، خالطك في منامك ما خالطك فولد هذه الرؤيا، فلا تحفل بها جعلني الله فداك، أطيب نفسه بضروب من الحيل حتى سلا وانبسط وأمر بإعداد ما يشتهيه.

ومرت الأيام فنسى ونسينا الرؤيا، ثم قدر مسيره إلى خراسان، فلما صار بالطريق ابتدأت به العلة، فلم تزل تتزايد حتى دخلنا طوس! وبينما هو يمرض في بستان له إذ ذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملا على نفسه، يقوم ويسقط فاجتمعنا إليه، كل يقول، يا سيدي ما حالك وما دهاك؟ فقال: أتذكر رؤياي؟ ثم رفع رأسه إلى مسرور فقال: جئني بشيء من تربة هذا البستان.

فجاء مسرور بالتربة حاسرا عن ذراعه، فلما نظر إليه قال:

– هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي وهذه والله الكف بعينها وهذه والله التربة الحمراء. وأقبل على البكاء والنحيب ثم مات والله بعد ثلاث ودفن في ذلك البستان!

+ -
.