“الحياة كما نتمناها ليست مجرد أكل وشرب وجمع للثروات.. إن جوهرها أبعد وما وراء تلك الأشياء بكثير”.
القاضية دوريت بينيش
يعتقد الكثيرون أن الحريات تنتهي عندما تتجاوز حرية الاخرين. في الواقع، قليلة هي الحريات التي يمكن تحقيقها بدون التعرض والاصطدام بحقوق أفراد وفئات اُخرى. إذاً الحريات هي نسبية وليست مطلقة. بحال حصول تصادم حريات بين جهتين نقوم بالموازنة بينها.
في مجتمعنا العصري المثقل بالأعباء المادية والسياسية والاجتماعية، والذي يصارع أبناؤه لأجل البقاء، نجد أن التسامح والصبر قد بدآ بالنفاذ بين فئاته وأفراده، ولهذا فإن الاهتمام بالقيم والحريات أصبح أمراً ثانويا بمواجهة التصدعات الموجودة في نسيج المجتمع ككل.
عام 1215 ميلادية رأت النور أول وثيقة لحقوق الانسان في إنجلترا، وسميت “الماغنا كارتا” (الميثاق العظيم للحريات في انجلترا)، وتم توقيعها بين الملك والبارونات. في الوثيقه يظهر المصطلح حريات الفرد وما يشتق منها من حقوق إضافية. المصطلح ذاته تم تهميشه لاحقا في ظلمات العصور الوسطى، لينهض من جديد في الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر.
في المائة وخمسين عاماً الأخيرة تعالت أصوات منادية بأنواع جديدة من الحريات، ومنها حق التعبير عن الرأي. في هذه الفترة تمت مناقشة حدود هذه الحرية والقيود عليها من قبل جهات سياسية وأكاديمية، والأهم منها، من قبل المحاكم وجهاز العدل.
لماذا النقاش المتعلق بحرية التعبير عن الرأي معقد جداً؟
هنالك أشياء بديهية متفق عليها، كضرورة منع المنشورات المنادية لقتل شخص أو إبادة فئة معينة. ولكن هنالك أشياء مثيره للجدل، مثل: هل توزيع مناشير تنادي بعدم تشغيل العرب هي مناشير عنصرية ويجب منع نشرها؟ هل وضع صورة لجسد امرأة ترتدي لباس البحر على باصات النقل العام هي مس صارخ بمشاعر الجمهور المتدين؟ معظم هذه الأسئلة، والكثير غيرها، تم تداولها في المحاكم الإسرائيلية، وفيما يلي أحد القرارت البارزة المتعلقه بحرية التعبير عن الرأي، كما ناقشها رئيس قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية السابق، البروفسور أهرون باراك، فربما يظهر فيه تجسيد لمعنى حق التعبير عن الرأي:
בג”ץ 14/86 יצחק לאור נ’ המועצה לבקורת סרטים ומחזות, פ”ד מא(1), 421
في سنوات الثمانينات يقوم الكاتب المسرحي اسحق ليئور بإخراج مسرحية اسمها “افرايم يعود الى الجيش”، التي أثارت عاصفة في المجتمع الإسرائيلي لما حملته من معان ورموز يسارية. وتجري أحداث القصة بغرفة الحاكم العسكري الاسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، حيث تُسمع اثناءها اصوات معتقلين فلسطينيين أثناء عملية استجوابهم والتحقيق معهم. الحدث الرئيسي هو موت متظاهر فلسطيني بعد رميه للحجارة على كتيبة الحاكم العسكري. أبطال القصة كما أظهرها ليؤر هم الحاكم العسكري، الجنود شلومو ودافيد، ومجندتان قامتا بالتحقيق مع المعتقلين.
اقتباسات من المسرحية:
”لقد احتلينا نابلس والخليل، اعتقلنا الجميع.. فجأة عبر الشارع طفل فلسطيني وعلى ظهره حقيبة. أمروني بان اعتقله وافتش حقيبته.. سألت لماذا؟ أجابني الضابط: هكذا كان جدي يهرب الأغراض الثمينة في عهد جيش هتلر.. كان يخفيها في حقيبة ظهره ولم يشكوا به كونه طفلاً.. أحرقنا أشجار الزيتون لأن الفلسطينيين اختبؤوا بينها.. كانو يدمرون دولتنا الجميله..“.
مجلس الرقابة الإسرائيلي على الأفلام والمسارح يقرر منع عرض المسرحية، بحجة أنها “تعطي صورة سلبية ووحشية عن الجيش الإسرائيلي في نظر المواطنين، وهذا يؤدي إلى المس بمعنويات الجنود والدولة، وبالمقابل المس بصورة إسرائيل في المجتمع الدولي”. ادعاءات مجلس الرقابه كانت بأن ”الانطباع الاولي الذي يحصل عليه مشاهد الفيلم هو مزيج من المشاعر السلبية والخائبة نحو الدولة والجيش بشكل عام، والحاكم العسكري بشكل خاص. من الواضح بأن الجمهور العربي الذي سيشاهد هذه المسرحية سيستجيب بشكل أعنف لمحتوياتها، وبهذا يوجد مس بسلامة الجمهور. لا يمكن حذف لقطات من المسرحية بل يجب منع عرضها كليا. الشخص الذي جسد دور افرايم قام بإعطاء صورة عامة عن الجيش وفيها يظهر افرايم كشخص سافل، منحط ومتوحش“.
القرار كما جاء من القاضي باراك وباضافة مقولة شخصية نادرة له:
“كما رأينا، المقاربة للحكم النازي موجودة في مقطع واحد من المسرحية، وقد تكرر عدة مرات. وهدفه هو المقارنه بين طفل يهودي الذي هرّب مجوهرات في حقيبته في عهد الحكم النازي (مخالفة التي كانت عقوبتها الإعدام) وبين طفل فلسطيني الذي قام بالأمر نفسه تحت الحكم العسكري الاسرائيلي. بالفعل، فان هذا المقطع الذي يظهر في الفلم قد يؤدي الى مس صارخ بمشاعر الجمهور اليهودي وبالاخص الجمهور ذاته الذي عاش في الماضي كارثة المحرقة النازية، بجسده وروحه.
أنا نفسي كنت طفلا في المحرقة النازية، قطعت أسواراً وجدرانا تحت رقابة الجيش الالماني، وعلى جسدي حملت أغراضا كان نقلها غير مسموح. التشبيه ومقارنة الجندي النازي الذي يقوم باعتقال هذا الطفل وبين جندي اسرائيلي يقوم باعتقال طفل فلسطيني، تحرق قلبي وتعتصره، ومع هذا، فنحن نعيش في دولة ديمقراطيه والتي بها مرارة القلب هي نواة الحكم الديمقراطي. قوة الديمقراطيه لا تتمثل فقط بحقي أن أسمع أقوالا تعشقها أذني وتسجد لها، قوة الديمقراطيه تتجسد بحق الغير على إسماع أقواله التي تنفر منها أذني وتحرق قلبي.
حرية التعبير عن الرأي تتمثل بقدرتنا على إظهار الصبر والتسامح بوجه الأشياء الأكثر كرها علينا وأكثرها استفزازية. حياة الغيتو كانت حياة معاناة. لم يكن هناك قيمة للبشر. أنت ترى قطا وترميه بحجر.. ترى إنسانا وتطلق الرصاص عليه.. قيمة الحياة لم تعلو عن قيمة النفايات.. القانون أعطى صلاحية لهذه الأفعال في عهد حكم النازيين.
أعطوا الحكومة قوة لكي تسيطر، وأعطوا الجيش قوة لكي ينتصر، ولكن القوة غير المرصونة تميل لأن تنتشر لكل صوب بلا قيد. يوماً ما سنستيقظ ونجد أن هذه القوة موجهة ضد كل واحد منا.
السؤال هو: هل سيتبقى هنا قوة مضادة كافية لكي تحمينا وتدافع عنا؟ فاذا لم نحم الديمقراطية اليوم، لن تحمينا عندما نحتاج إليها غداً…
المحكمة تقبل الاستئناف وترفض قرار لجنة الرقابة وتسمح بعرض المسرحية”.
______________________________
* أسامة العجمي: طالب سنة أخيرة في كلية الحقوق، و خريج كلية الاقتصاد في جامعة حيفا.