تداعيات الحرب الاوكرانية‎‎ – أيمن أبو صالح

بقلم أيمن هايل أبو صالح

يمثل الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط 2022 أكبر زلزال جيوسياسي يشهده العالم بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، لا بل بعد الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) .

يشهد العالم تدريجياً بعد هذا التاريخ تكسراً وانفلاتاً لمنظومة المجتمع الدولي وتفاهماته. ويغرق في فوضى ونزاعات ما زالت ترسم منحنىً بيانياً تصاعدياً ناتجاً من هذه الحرب غير الأخلاقية وغير القانونية بحدها الأدنى، وقد أثرت هذه الحرب في جميع دول العالم، بل دخلت كل بيت.

إعلان

يبدو أن روسيا تورطت بهذه الحرب، بقرار فردي غير مدروس كفاية من الرئيس الروسي فلاديمر بوتين، فانكشف ضعف الجيش الروسي وفساده، وأظهر وحشية وهمجية غير مسبوقتين تعيدان للأذهان تصرفات الجيوش خلال الحرب العالمية الثانية.

بادر الروس إلى الحرب ظنا منهم أنها ستحسم في خلال أيام، لكن سرعان ما أصبحت الدفة بيد الأمريكان الذين استغلوا هذا التورط وأرادوا أن يغرقوا روسيا في المستنقع الذي ألقت بنفسها فيه. تريد الإدارة الأمريكية استنزاف روسيا حتى النهاية، مستغلة حق أوكرانيا الشرعي في استعادة أراضيها. طبعاً سياسة أمريكا الحقيقية هي استنزاف روسيا لا الدفاع عن حق أوكرانيا، كما قال المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي ’’أمريكا ستواصل الحرب حتى يقتل اخر أوكراني’’.

روسيا قبل الحرب والعقوبات المفروضة عليها:

استفادت روسيا كثيراً من علاقاتها مع الغرب وخاصة مع الدول الأوروبية. يستورد الاتحاد الأوروبي من روسيا 40% من حاجته من الغاز و 33% من النفط . وكانت عوائد الصادرات الروسية من الطاقة وحدها الى أوروبا عام 2021 بمقدار 270 مليار دولار. في حين وصلت الاستثمارات الأوروبية في روسيا عام 2020 الى 340 مليار دولار. إضافة الى عدد الوظائف التي وفرتها الشركات الأوروبية للمجتمع الروسي؛ فمثلا هناك ثلاث قطاعات فقط للشركات الفرنسية في مجال صناعة السيارات والنفط وقطاع البنوك وفرت 120 ألف فرصة عمل. وبلغت الاستثمارات الروسية في الدول الأوروبية 136 مليار يورو في العام نفسه.

إضافة إلى ذلك تصدر روسيا 30% من حاجة العالم من الغازات النبيلة، تذهب إلى أوروبا وتايوان والعالم. حالياً طبعا تم حظرها.

استفادت روسيا من التكنولوجيا الغربية وطورت صناعتها التي أصبحت أكثر جودة، خاصة في مجالي التصنيع العسكري، والطاقة النووية، فهي كانت قبل الحرب تستحوذ على 70% من الاستثمارات العالمية في مجال الصناعة النووية الخاصة بتوليد الطاقة الكهربائية.

إن سلسلة العقوبات على روسيا كانت قوية وغير متوقعة من قبل قيادتها السياسية. وستستمر هذه العقوبات إلى أن يتراجع الاقتصاد الروسي تدريجيا. فالحرب لا تحسم بالجيش وحده، إنما بعناصر أخرى تتفاعل معه وتكمله، وهي الاقتصاد والتكنولوجيا والتعاون الدولي. هذه العناصر كلها تؤكد قدرة الغرب على الحاق الهزيمة بالجيش الروسي وإمكان إعادة الأراضي التي تم احتلالها بما فيها شبه جزيرة القرم.

الموقف الصيني:

يمثل الموقف الصيني العامل الوازن في الحرب الأوكرانية. فمن جهة تعمل الصين على تلافي أي هزيمة روسية، خاصة أن الغرب قد يستدير إليها مستقبلا بعد هزيمة روسيا، إذا ما هزمت روسيا بالفعل. ولدى قضية مشابهة وهي إعادة تايوان إلى التراب الصيني. ومن جهة أخرى، لا تريد الصين أن تنتصر روسيا انتصاراً ساحقاً، لكي تظل في حاجة إليها. فالصين تريد أن تكون روسيا امتداداً لذراعها العسكري ضد الغرب.

التصريحات الصينية حتى الآن تزعم عدم قيامها بدعم روسيا عسكريا أو تكنولوجيا، لكن هذا غير مضمون مستقبلاً، خاصة مسألة الدعم بالتكنولوجيا المطلوبة للتصنيع العسكري الروسي، سواء بشكل مباشر أو عبر وسيط. الأيام القريبة القادمة ستوضح ذلك؛ لان المواقف الغربية وخاصة الأمريكية فيها استفزاز وتحد للصين، يتصاعد تدريجيا من خلال الأحلاف العسكرية التي تقيمها الولايات المتحدة الأمريكية مع دول في شرقي أسيا.

ترى الصين أن حربا اقتصادية وحظراً على التكنولوجيا يمارسان عليها، وهما عنوانا العلاقات القادمة مع الغرب عامة وأمريكا خاصة.

يخشى أن الحرب الروسية الأوكرانية لن تقف حدودها وتداعياتها عند نقطة معينة، بل قد يتجه العالم إلى الانفلات من عقاله. وقد ازداد هذا الأمر سوءاً مع قدوم الرئيس جو بايدن الى البيت الابيض.

التحالفات العسكرية :

اتفاق أوكوس:
وهو اتفاق أمني يضم الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا واستراليا. سببه تنامي التوسع الصيني في المحيطين الهادئ والهندي.

تحالف كواد:
وهو تحالف يضم الولايات المتحدة واليابان والهند واستراليا. وهي دول تطل على المحيطين الهادئ والهندي. وهو حلف ضد الصين أيضا.

حلف الناتو:
وهو التحالف الأبرز والأقوى. أعيد تنسيق هذا الحلف وضُخ الدم فيه من جديد بقيادة الولايات المتحدة، بعد أن تراجع دوره وبقي حبراً على ورق قبل الحرب على أوكرانيا. يجري الحلف مناورات دورية في العديد من الدول الأعضاء؛ ويعيد تحديث منظوماته العسكرية. هناك دول تتقدم بطلبات للانضمام إليه مثل فنلندا التي اصبحت حديثا جزءاً منه. وهناك السويد التي تحاول تذليل العقبات مع تركيا لقبولها به عضواً دائماً.

هناك دول سبق أن ألغت الخدمة العسكرية. لكن بعد حرب أوكرانيا أعادت نظام الخدمة الإلزامية، منها لاتفيا. ودول أخرى تدرس الامر. إضافة إلى تخلي بعض الدول عن نهجها السلمي، مثل اليابان وألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية.

تقوم الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية بتكثيف العمل في التصنيع العسكري، من خلال ثلاث ورديات عمل متواصلة لإنتاج الأسلحة اللازمة لها ولشركائها. إضافة إلى تلبية الطلب على سوق السلاح في العالم. بلغ الانفاق العالمي على السلاح العام الماضي 2022 مبلغاً قدره 1,25 تريليون دولار. استحوذت الولايات المتحدة على نسبة 40% منها, والصين على 13%.

إن الوجود العسكري الأمريكي في بحر الصين وشرقي آسيا لهو دلالة على خطورة الوضع في تايوان. فان ثلثي الأساطيل الأمريكية أصبحت في هذه المنطقة، وقسم من قطعها العسكرية البحرية استدعي من الخليج ومن الولايات المتحدة نفسها للالتحاق بالقطع البحرية في محيط تايوان.

ازدادت الاحتكاكات العسكرية الامريكية – الروسية غير المنضبطة سواء في البحر الاسود أو في سوريا. والغيت العديد من الاتفاقيات العسكرية المشتركة بين الطرفين، مما يدفع بالعالم إلى أجواء تصعيد غير مسبوقة، قد تنزلق إلى مواجهة عسكرية ليست في الحسبان. الأمر نفسه مع الصين سواء في الجو أو البحر قرب تايوان.

تشكل المجموعات الاقتصادية العالمية السابقة واللاحقة امتداداً للتحديات التي بدأت تواجه أعضاءها بسبب التوتر العالمي المتزايد بعد حرب اوكرانيا:

  • مجموعة السبع:
    التي تضم أمريكا، بريطانيا, ألمانيا, فرنسا, اليابان, إيطاليا وكندا. يشكل اقتصادها 60% من الاقتصاد العالمي. يسكنها 800 مليون نسمة.
  • مجموعة بريكس:
    التي تضم الصين, روسيا, الهند, البرازيل وجنوب افريقيا. يشكل اقتصادها 23% من الاقتصاد العالمي. وتمثل 42% من مساحة العالم. وعدد السكان 3,4 مليار نسمة.
  • مجموعة اسيان:
    التي تضم عشر دول من جنوب شرق آسيا. وتشكل ثالث أكبر اقتصاد عالمي، يسكنها 680 مليون نسمة.

ربما بدأت نهاية عصر القطب الواحد نتيجة تراجع الدور الامريكي، وبدأت تزداد أزمة الغرب أيضا، وتظهر إلى العلن انقسامات بين دوله، رغم التحدي الكبير المتمثل في الغزو الروسي لأوكرانيا. والخطر المتوقع من غزو صيني غير بعيد على تايوان. وهذا يمثل تحدياً كبيراً لدول شرقي آسيا كافة وبلا استثناء. وهو ما تتحضر له دول كاليابان وكوريا الجنوبية واستراليا والفليبين وغيرها، إضافة طبعا للولايات التحدة وتايوان أيضا. ففي حال اندلاع الحرب لن تتردد هذه الدول في دخول الحرب من بدايتها. ولن تتحمل الصين قوة هذه الدول العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية.

تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على إرغام الصين على الجلوس إلى طاولة مفاوضات تتقاسم معها العالم، وذلك كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية. فقد حان الوقت لمعادلة جديدة ومجلس أمن جديد باتفاقيات يحددها الوضع الحالي، قبل تنامي قوة الصين الصاعدة والتي يصعب وقفها وفرملتها.

الحرب الأمريكية على الصين لن تقف عند الاقتصاد والتكنولوجيا فقط، بل تتعدى ذلك الى استفزاز الصين يوميا عبر تحالف دولي قوي يضم القوى الغربية كافة.

تسعى أمريكا إلى جر الصين إلى حرب في تايوان. السناريو الاوكراني قد ينتقل الى تايوان. وإذا كانت أمريكا تركز على المنطقتين فقط، ضد روسيا وضد الصين، وعدم افتعال أي أزمة في أي بقعة في العالم، فان روسيا والصين لاحقا ستقومان بإشعال بؤر وحروب في كافة مناطق نفوذها في العالم، وهذا ما نشهد بداياته في دول أفريقية. سيكون للشرق الأوسط نصيب كبير منها.

العالم اليوم يمر بأخطر مرحلة بعد الحرب العالمية الثانية. فالحرب الثالثة تسمع أصواتها، من خلال إحكام الحصار على الصين اقتصاديا وتكنولوجيا، ومحاصرتها بأحلاف عسكرية في محيطها الحيوي, وتمركز الأساطيل الغربية وخاصة الأمريكية في المحيطين الهادي والهندي وبحر الصين، إضافة إلى المناورات البحرية في هذه المناطق والهجمات السيبرانية المستمرة، واتهام الصين بهذه الهجمات, علاوة على تآكل حرية التجارة والسوق الحرة ووقف نشاط منظمة التجارة العالمية لمصلحة الأنشطة الاقتصادية والتكنولوجية الوطنية .. لهذا، فإن قطاع الأعمال الأمريكي متخوف من تنامي التوتر مع الصين, جراء التركيز الدولي على التصنيع الحربي وزيادة الإنفاق العسكري، وزيادة وتيرة النزاعات الدولية في العالم وفي البلد الواحد أيضا، كالسودان ودول افريقية كثيرة، على سبيل المثال ( مجموعة فاغنر الروسية تتواجد حاليا في سبع دول افريقية), والأمثلة كثيرة سواءً في آسيا أو أوروبا وأمريكا اللاتينية.

إن سيناريو العراق وتورط صدام حسين بغزو الكويت (والخطأ طبعا هو غرور صدام ولا يمكن تبريره)، وسيناريو روسيا وتورط فلاديمير بوتين بغزو اوكرانيا (والخطأ ايضا هو غرور بوتين ولا يمكن تبريره)، حدث مكرر، رغم كل التحسبات والدراسات الصينية، فالحرب لاستعادة تايوان هي عنوان الحرب العالمية القادمة، التي سترسم الخارطة الجديدة للعالم، وذلك من خلال إجبار الصين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات التي طالما رفضتها. تريد الولايات المتحدة حسم هذا الأمر في الوقت الأنسب قبل وصول التنين الصيني مستقبلا إلى انحاء مختلفة من العالم.

تستطيع أمريكا وحلفاؤها حسم الحرب لصالحهم حالياً إذا ما تم النظر إلى حجم الاقتصادات الدولية المشاركة في الحرب، مأخوذاً بعين الاعتبار قوتهم التكنولوجية والعسكرية.

هناك طاولة ستجمع الدول القوية لرسم مستقبل جديد للعالم ومجلس أمن جديد، لكن يبقى السؤال المطروح: إلى متى تستطيع الولايات المتحدة إبقاء الدولار عملة عالمية, وإلى متى ستبقى هي الدولة الأقوى اقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا. باحثون كثيرون يتوقعون أن تنجح أمريكا، وتؤكد قوتها، على المدى القريب، لكن على المدى المتوسط والبعيد سيكون هذا مستحيلاً.

+ -
.