لم تتأخر «نظرية المؤامرة» Conspiracy Theory عن التمدّد إلى الأوبئة الفيروسيّة التي تتالت منذ مطلع القرن 21. تنقلّت النظرية بين «سارس» SARS و «أنفلونزا الطيور»، ولم تعف حتى عن «انفلونزا الخنازير».
فــي كل مرّة، كانت المخيّلات تذهب إلى البعيد والأبعد. ربما لأن تطوّر العلوم البيولوجية، خصوصاً الجينات، أوحت لتلك العقول بخيالات ضخمة. بقول آخر، لأن إمكان التلاعب الجيني بتراكيب الكائنات الحيّة باتت في يد العلم فعليّاً، لم تحتج المخــيلات المهجوسة بالمؤامرة ونظرياتها إلى كثير من الجهد، كي تخلط حابل الحقيقة بنابل الأوهام.
وجاءت تصرّفات بعض الحكومات لتزيد في طين أخيلة المؤامرة بلّة، بل لتجعلها سيولاً لا تتوقف. مثلاً، لماذا جرجرت الحكومة الصينية أرجلها طويلاً في طين التلكؤ والمماطلة، بل إنها لم تبدأ في التعاون مع المؤسسات الدوليّة إلا بعد أن انتشر الفيروس المنطلق من الصين، في 29 بلداً؟ (أنظر «الحياة» في 25 نيسان- إبريل 2014).
الأرجح أن هذه المخيّلات المشتعلّة بالأوهام الفوّارة، ستجد مساحة ضخمة للتمدّد فيها خلال القرن الجاري. لماذا؟ ببساطة، لأن هذا القرن يشهد ولادة سريعة لعلم جديد: بيولوجيا التركيب الاصطناعي Synthetic Biology، واختصاراً «سين بيو» Synbio.
ويزيد في قوة هذه الولادة وتأثيراتها أنها تعبّر عن الإندماج بين طرفين صاعدين في العلوم المعاصرة: الكومبيوتر والجينوم. يكفي الكومبيوتر وحده لتأجيج المخيّلات. لنفكر في ما حدث ضمن أدمغة «نظرية المؤامرة» مع الفضيحة التي فجّرها خبير المعلوماتية الأميركي إدوارد سنودن.
وكذلك يكفي الجينوم وصورة الإنسان المتلاعب بجينات الكائنات الحيّة وتراكيبها، ليشعل الخيالات ويطلقها إلى آفاق لا متناهية.
ماذا يحدث عندما يولد علم قوي من اندماج الأمرين سويّة؟ إلى أين تسير الخيالات مع التمدّد المستمر لعلم «سين بيو» الذي يعبّر عن قدرة الإنسان على تصنيع كائنات حيّة مجهرية، لم تكن موجودة في سجل الطبيعة منذ بداية التاريخ؟ يكفي وضع معادلات مناسبة، واستعمال الكومبيوتر لرسم تركيبتها الجينية، كي يأخذ العلماء تلك التركيبة ويجمعوها من مكوّناتها الأوليّة (= التراكيب البروتينية الأساسية التي تتألف منها الجينات)، كي يصعنوا ميكروبات جديدة، لم ترها الأعين ولا العقول أبداً!
البداية: «فاي أكس 174»
في شهر أيار (مايو) 2010، ابتكر أحد كثر الرجال ثراءً ونفوذاً في مجال التقنيّات البيولوجيّة مخلوقاً حيّاً جديداً. وانطلق جي كريغ فانتر وفريق العمل في شركته الخاصة من تركيبة الحمض النووي «دي أن إيه» DNA، لبناء تركيب وراثي مستحدث يتضمّن ما يزيد على مليون مُكوّن مشفّر من التراكيب الأساسية في الحمض النووي، وهي تُعرَف باسم «قواعد النيوكليوتيد» Nucleotide Bases.
وقبل سبع سنوات، كان فانتر أوّل شخص في التاريخ يصنع خلية حيّة بالارتكاز على هذه المعلومات. وعند دراسة تركيب الحمض النووي في فيروس يدعى «فاي أكس 174» phi X174، الذي يستطيع أن يغزو البكتيريا، فكر كريغ أنه يستطيع تركيب ذلك الحمض النووي فعليّاً في المختبر، بالاعتماد على معلومات الكومبيوتر عن تركيبته. وأنجز كريغ هذا الأمر. إذ جرى تركيب فيروس بصورة اصطناعيّة في المختبر على أساس الشفرة الجينية «فاي أكس 174».
واكتشف فانتر وفريق عمله كيفية صنع خليّة جرثوميّة بصورة اصطناعية. وبعد جهد، راقب الفريق بدهشة تلك الخليّة الحيّة التي ابتكروها وهي تبدأ بالحركة، بل تأكل وتتنفس وتتكاثر.
وأثناء اشتغاله على هذا الموضوع، حاول فانتر تحذير عدد كبير من الأشخاص الغافلين عمّا يجري، وأن يلفت نظرهم إلى الآفاق التي توشك على التفتح أمام العلوم البيولوجيّة.
وخلال مقابلة أُجريت معه في العام 2009، لفت فانتر إلى أن التوصّل إلى تركيب جينوم ما بصورة اصطناعيّة، كفيل بأن يؤثّر في نظرة الناس إلى الحياة.
واعتبــر أيضاً أنّ هذه التكنولوجيا المبتكــرة عبارة عن «علم جينومات مُركّبة» Synthetic Genomes. ويعني ذلك أنها تراكيب جينيّة تنطلق في الكومبيوتر، لتصنع عالماً رقميّاً لعلوم البيولوجيا، ثم تصل إلى صناعة تراكيب جينيّة من كائنات حيّة… وفق الطلب!