الأرجح أن لا شيء يدفع بعضلات بطني إلى التحرّك في موجات من السخرية، مع اندفاع كثير من الأدرينالين إلى دمي وقهقهات تخرج كالانفجارات من فمي، أكثر من عبارة «حقائق علميّة ثابتة». لا يأتي الضحك من الكلمات وحدها. إذ يساهم قائلوها في ضخّ الضحك في نفسي… أحياناً. وتمر أوقات أكون في مزاج سيّء، فأرى أن لا شيء يسيء إلى العِلم وفهم الناس له، أكثر من هذه العبارة التي لا تتضمن شيئاً من ذكاء العِلم.
ماذا تعني «حقائق علميّة ثابتة»؟ إن كان من شيء وحيد يمكن تعلّمه من العِلم وتاريخه، فهو أن لا حقائق ثابتة في العِلم. بديهي القول إن هناك حقائق ثابتة في غير العِلم. إذ بإمكان رجال الدين أن يتحدّثوا عن حقائق ثابتة، لا تتغيّر ولا تتبدّل ولا تخضع لمنطق الاختبار، ولا توضع على محك التجربة والزمن. أما العِلم، فالأرجح أنه شيء آخر.
أتخيّل لو جئنا بعالِم من القرن الماضي. ثم أجلسناه قرب كومبيوتر متّصل بالإنترنت. ثم طلبنا منه أن يقول لنا عن حقائق العِلم كما يعرفها، (بالطبع لن نستخدم كلمة «ثابتة» لأنها قد تثير ضحكه أيضاً). وبحثنا عن وضع هذه الحقائق. فماذا تكون النتيجة؟ الضحك والكثير منه.
وقبل أن يموت، فهِم آلبرت إينشتاين أنه أخطأ بخصوص «الثابت الكوني» Cosmologic Constant. دعاه عالِم الفلك الأميركي إدوين هابل إلى مرصد، وأظهر له برؤية العين أن الكون يتمدّد باستمرار، ما يعني أن حدوده ليست ثابتة وفق ما افترض إينشتاين، الذي ذهب إلى حدّ وضع أرقام محدّدة عن تلك الحدود!
النقد والمزيد منه
لا يعني القول بعدم ثبات حقائق العِلم شيئاً مُهيناً ولا يعني وضع العِلم في مرتبة متدنية. على العكس تماماً. إنه وصف لوضع العِلم وحقائقه. وبالعودة إلى إينشتاين، لم يعنِ نقد هابل لنظريته أنها ليست علميّة، ولا أنها غير صالحة. إذ ما زال العلماء يعتمدون رؤية إينشتاين عن الكون وجاذبيته و»قماشته» وغيرها، بل أن نظرية «الانفجار الكبير» («بيغ بانغ» Big Bang)، تستند إلى نظرية إينشتاين.
في المقابل، لا يتورّع أولئك الذين يتناقشون على فضائيات العرب، بصوت مرتفع ووجوه محتقنة متوترة، عن ترداد عبارة «إن الحقيقة العلميّة الثابتة تقول كذا». كم كتاب عِلم قرأ هؤلاء؟.
في الغرب، يستعملون عبارات أكثر لطفاً وتواضعاً. إذ يستعمل العلماء (وكذلك معظم السياسيين) عبارة من نوع «بحسب أفضل معارفنا حاضراً». تعني هذه العبارة أن المعرفة متغيّرة، وأن ما نعتبره أفضل معرفة، قد يصبح مجرد نقطة على خريطة العِلم الكبيرة.
هذا يوصلنا إلى سؤال عن مسألة تغيّر المعرفة العلميّة. لا أحد يقول أن نظرية إسحاق نيوتن عن الجاذبية لا تستطيع أن تفسر أشياء كثيرة، بل أنها أفضل ما نعرف عن حال الأجسام وعلاقاتها وجاذبيتها… لحد الآن. ولكن، لا تنطبق نظرية نيوتن على العلاقات بين مكوّنات الذرّة مثلاً.
كذلك أظهرت نظرية إينشتاين عن الوقت ونسبيته، محدوديّة المدى الذي تنطبق فيه رؤية نيوتن عن الوقت في الكون. واستطراداً، لا شيء يمنع أن يظهر نقد آخر لنظرية نيوتن، ربما جعلها مجرد ذكرى. لا شيء يمنع أن يثبت أن نظرية إينشتاين لا تصلح لتفسير حركة الضوء مثلاً، ما قد يضرب أساسها العميق.
لكن العلماء ما زالوا قادرين على العمل بناء لنظرية إينشتاين، بانتظار أن يظهر أنها «ليست ثابتة».
ليس هذا الأمر بمرعب، إلا بالنسبة إلى بعض من يملك حنجرات قويّة وأصــابع ممــدودة دوماً باتجاه الآخر (وهو على خطأ دائماً، بالطبع…)، لأن هؤلاء يعرفون «حقائق علميّة ثابتة»، على عكس حال علماء وكالة «ناسا» أو بحّاثة «معهد ماساشوستس للتقنية».
حتى الطريقة التي ندحض فيها الرأي الآخر، تثير الضحك (والخوف أيضاً)، لأننا نعمل على نفي صوابيّة رأيه كلياً، فيما المسائل ربما تحتمل أكثر من تفسير.
هناك كتاب للكاتب العلمي إسحاق عظيموف، وهو من مُنظّري العِلم المعاصرين، يحمل عنوان «نسبية الضلال». يعطي مثالاً عن نسبية الخطأ. إذ من المستطاع القول إن سطح الطاولة مستقيم، وحدوده ترسمه خطوط مستقيمة. لكن العلم يقول إن الخط المستقيم ربما كان جزءاً من خط مقوس ضخم.
إذن، من يقول إن الخط على سطح الطاولة مستقيم، هو مُحِقّ ضمن حدود، ومن يقول إن ما نراه مستقيماً ليس سوى جزء من خط مقوّس هو مُحِقّ أيضاً، لكن ضمن حدود أخرى!