هذه الجثة لشيشاني. وهذه ليمني. واضح أن هذه الجثة لأوروبي لكننا لا نستطيع تحديد البلد بدقة. هذه الملامح تشير الى كازاخستان. وربما يكون صاحب الجثة صينياً. أغلب الظن ان هذه الجثة لمقاتل خليجي. والأرجح ان تلك لعراقي. وهذا أشقر وأزرق العينين وهؤلاء هم الأعنف في تنظيم «داعش».
كانت القصة بدأت حين طلبت اذا كان في استطاعتي مشاهدة بعض الأفلام للمعارك الأخيرة. تجاوب مسعود بارزاني رئيس اقليم كردستان لكنه سألني ان كانت تزعجني المشاهد القاسية اذ ان بعض الجثث مقطعة. رددت ممازحاً: «لو كنت حساساً الى هذه الدرجة لما رأيتني هنا». ابتسم وطلب من الضابط المباشرة.
اشتباكات عنيفة سرعان ما تتحول إلى معارك طاحنة في مناطق وعرة. سيل من الرصاص والقذائف. وفجأة تخرج من جهة «داعش» سيارة «هامر» اميركية مدرعة تعجز الرشاشات العادية عن اختراقها. قرر الانتحاري «الانغماس في العدو». في الأسابيع الأولى من المواجهات اضطر ضباط من البيشمركة التصرف كانتحاريين لحماية جنودهم. اعترضوا عربات الانتحاريين بعرباتهم واستشهدوا لمنع الانتحاري من اكمال رحلته.
بعدها يتغير المشهد. عثرت قوات البيشمركة على العلاج. يخرج الانتحاري في اتجاه صفوف الأعداء وإذ بصاروخ يستهدف «مدرعة الداعشي» ويحيلها كتلة من لهب. بعدها ترتفع اصوات مقاتلي البيشمركة مهللة. ويتكرر المشهد في اكثر من مكان. إنه صاروخ «ميلان» الفرنسي الذي حصلت عليه البيشمركة من مخازن الجيش الألماني بقرار من المستشارة الألمانية. يتحدث المقاتلون الأكراد عن صاروخ «ميلان» بلهجة من عثر على صديق في زمن الشدائد. والحقيقة ان الأكراد عثروا هذه المرة على اصدقاء كثر ما أبطل المقولة القديمة ان «لا صديق للأكراد إلا الجبال».
تُظهر الأفلام أن تنظيم «داعش» محارب و «عنيف ومتوحش». لكنها تُظهر أيضاً أنه ليس من قماشة «الجيش الذي لا يُقهر». والدليل انسحابه من مساحات واسعة كان يحتلها مخلفاً وراءه عدداً كبيراً من الجثث. تظهر الأفلام أيضاً دقة الضربات التي يوجهها التحالف الدولي الى مواقع «داعش».
كان علينا ان نقطع أكثر من ثلاثمئة كيلومتر للوصول الى غرفة العمليات. وكانت الطريق التي تتلوى بين التلال مكتظة خصوصاً بالشاحنات التركية. خاف السائق ان نتأخر عن موعدنا مع الرئيس. قاد سيارة الجيب ببراعة تلامس التهور وتحبس الأنفاس. لكن ما كان أقسى من أهوال القيادة هو عيون الإيزيديين المطلة من أحد مخيماتهم قرب الطريق. ما أوجع الروايات المتداولة عن اغتصاب الإيزيديات وسبي الإيزيديات.
قبل المغادرة تلقى احد الضباط الحاضرين تقريراً يفيد بأن مواطنين من كركوك جرجروا جثث مقاتلين من «داعش» بعد معركة وقعت في المنطقة. أمر بارزاني بالتدخل لوقف هذه الممارسات لافتاً الى ضرورة عدم السماح لمشاعر الغضب بالتسبب بأعمال لا تليق بمحاربين يدافعون عن أرضهم.
غادرنا المكان قبل أن ينتصف الليل. لم يكن من الحكمة العودة في مثل هذا الوقت إلى أربيل. اخترنا النوم في مدينة دهوك.
قبل النوم تزورك أممية الجثث التي شاهدتها. تعود الأسئلة الصعبة. في أي مختبر ولد تنظيم «داعش»؟ وكيف استطاع تحقيق «فتوحاته» السورية والعراقية؟ وكيف استطاع ان يضم الى صفوفه من كانوا وراء القضبان في سجون البلدين؟ ولماذا انهار الجيش العراقي بهذه السرعة؟ ولماذا يُقال ان طهران مستفيدة من اهوال «داعش» ويقال الشيء نفسه عن دمشق؟ ولماذا ينصحك صديقك في بغداد بالسؤال عن «الخيط التركي» في قصة «داعش»؟ ولماذا يسألك ان كنت جئت للسؤال عن التنظيم ام لوداع العراق لأن ما بعد «داعش» ليس كما قبلها؟
انتهت الرحلة العراقية. كانت مؤلمة ومثيرة. رائحة دم وجراحات قاسية للخرائط. في صالون المطار تحاول غسل دماغك من حديث الجثث والسبي. تطلب فنجان قهوة. وحين تنظر الى الشاشة ترى حبال النار تقترب من الطيار الأردني معاذ الكساسبة. الحرب تلوّح بالاشتداد والاتساع. ما هذا الشرق الأوسط؟ لا العيش فيه سهل ولا النوم مريح. إنه منطقة منكوبة.