لا يزال بوسع مدينة “تشاكو كيراو” في بيرو أن تعطيك انطباعا بأنك فعلا أول من يطأ ثراها على الإطلاق، وهي أكبر مساحة من مدينة ماتشو بيتشو التاريخية في البلاد.
على أي حال، تعد الرحلة إلى “تشاكو كيراو”، تلك المدينة المفقودة التي تعود لعصر حضارة الإنكا، إحدى أكثر الرحلات صعوبة في بيرو.
فالرحلة تبدأ من بلدة كاتشورا، الواقعة على بعد 161 كيلومترا، غربي مدينة كوسكو. ومن هناك، يمكنك قطع 18 كيلومترا سيرا على الأقدام إلى جبل كابليوك، ليمضي من هناك نزولا إلى منطقة بلايا روزاليناس، حيث يمكن للمسافرين التخييم وقضاء الليل.
وبعد الاستيقاظ في الصباح الباكر، سيتعين على المسافرين عبور نهر أبوريماك، ومن ثم اجتياز ثمانية كيلو مترات من الطرق المتعرجة الشاقة والمنهكة، بغية الوصول إلى منطقة التخييم القريبة من أطلال المدينة.
وفي الصباح التالي، سيتوجب على المسافرين قطع كيلومتريّن آخريّن صعودا إلى حيث الأطلال نفسها، تلك القابعة على نقطة ترتفع نحو 3100 متر فوق سطح البحر. أما عن طريق العودة، فهو ذاته طريق الذهاب، ولكن في الاتجاه العكسي.
ويقول خوان باريوس، وهو مرشد سياحي يعمل لحساب شركة “أدفنتشر لايف” للرحلات، إنه اصطحب “أناسا في الستينات والسبعينات من العمر قاموا بهذه الرحلة..(لكن) البعض يأتون، ولديهم اعتقاد أن بوسعهم قطع الرحلة كلها خلال يوم واحد، نظرا لأن المسافة لا تتجاوز 28 كيلومترا من نقطة الانطلاق”.
ويشير باريوس إلى أن الزمن المثالي الذي يمكن إكمال الرحلة خلاله يتراوح ما بين ستة وسبعة أيام.
ومن هذا المنظور، لا عجب في أن أقصى عدد من الزوار تجتذبه “تشاكو كيراو” خلال ذروة الموسم (وهي الفترة ما بين يونيو / حزيران وأغسطس / آب) يقارب نحو 30 شخصا يومياً، مقارنة بنحو 2500 زائر يصلون في كل يوم إلى ماتشو بيتشو؛ تلك المدينة الشهيرة التي تعود بدورها لعهد حضارة الإنكا.
لكن بالنسبة لمن يخوضون غمار هذه الرحلة الشاقة، تبدو المكافآت التي يحظون بها في نهاية المطاف وفيرة: من قبيل المساحات الخضراء الوارفة والخصبة في البرية، ومشاهد الجبال التي تطالع المرء في كل منعطف، وتمكنه من رؤية المناظر الجبلية على اتساعها بمنحنياتها المثيرة للإعجاب، فضلا عن فرصة أن يستكشف تلك الأطلال القديمة ذات الجاذبية الآسرة، دون أن يزاحمه أحد تقريبا.
وفي واقع الأمر، فإن “تشاكو كيراو” – التي يُعتقد أنها شُيدت تقريبا في نفس فترة تشييد مدينة ماتشو بيتشو، أي في عام 1445 – تمتد على مساحة تفوق مساحة نظيرتها، تلك المعروفة بشكل أفضل والمطروقة على نحو أكبر.
ولكن لم يُكتب سوى النذر اليسير عن “تشاكو كيراو”، المدينة المفقودة الأخرى في بيرو.
ولا يزال علماء الآثار يواصلون إماطة اللثام عن أجزاء جديدة غير مُكتشفة من الأطلال الموجودة هناك، وهو ما يترك المجال نسبيا لأن تمضي الحياة على نحو غير مقيد، ودون أن يعوقها شيء في المنطقة الجبلية القابعة فيها المدينة الأثرية.
وتشير المعطيات إلى أنه لم يتم ترميم سوى ما يقرب من 30 في المئة من تلك المدينة.
لكن حشود الزوار ربما لن تبقى بعيدا عن تلك المدينة لفترة طويلة. فتقديرات المسؤولين تشير إلى أن عمليات مد أول خط لقطار هوائي (تلفريك) لإيصال الزوار للمدينة ستكتمل في وقت ما من عام 2016، وهو ما يقلص الزمن اللازم للوصول إلى “تشاكو كيراو” من عدة أيام إلى 15 دقيقة فحسب، يقطعها المسافر وهو على متن ذلك القطار الخفيف.
ونتيجة لذلك، فإن العدد المحدود من الزوار الذين يقومون بتلك الرحلة في كل أسبوع حاليا قد يزداد ليقارب نحو 3000 زائر يوميا.
وبالفعل بدأ مالكو منطقة المعسكرات الترفيهية القريبة من الأطلال في رصد تدفق الرحالة على منطقتهم، عقب الانتهاء في أغسطس / آب من العام الماضي من تشييد جسر “بونت روزالينا” الذي يمتد فوق نهر أبوريماك.
وبات الآن بوسع منظمي الرحلات السياحية اجتياز الجسر بيسر وسهولة على صهوة الجياد، عوضا عن اللجوء إلى نظام بدائي يعمل بالحبال والبكرات التي يسحبها كل منهم، لكي يعبروا فوق النهر بواسطتها واحداً تلو الآخر، أو استئجار مجموعة أخرى من الجياد تنتظرهم عند الشاطئ الآخر لامتطائها فوق وصولهم إلى هناك.
ولكن مع الوضع في الحسبان حقيقة أن الجسر استغرق ست سنوات كاملة لكي يكتمل تشييده، فإن بعض سكان المنطقة يعتقدون أن اكتمال مد خط القطار الهوائي لا يزال أمرا بعيد المنال.
وفي واقع الأمر، فإن الموعد المحدد للانتهاء من هذا المشروع قد أُرجئ مرتين.
ويعلق جوليان كوباروفياس، وهو مالك موقع “سانتا روزا بايا” للتخييم، على ذلك بالقول :” ثمة صراعات أكثر من اللازم. إنها مسألة تتعلق بالأنانية. طرف ما يريد هذا، بينما يرغب طرف آخر في شيء مختلف”.
لكن ثمة شيئا واحدا مؤكدا، ألا وهو أن الطابع المذهل والمثير الذي تكتسي به “تشاكو كيراو” في الوقت الحاضر، ينبع من مدى كونها مكانا نائياً، وبقعة بكراً لم يمسها أحد تقريبا.
فأطلال هذه المدينة المفقودة لا تزال تعطي كل من يزورها انطباعا بأنه أول من عثر عليها، بالرغم من حقيقة أن تلك المدينة قد اكتُشفت على يد المستكشف الإسباني خوان آرياس دياز عام 1710، وبدأت عمليات الحفر والتنقيب في أنحائها في سبعينيات القرن العشرين.
(إذا قورن ذلك بحال مدينة ماتشو بيتشو، فسنجد أن هذه المدينة الأخيرة كُشف عنها النقاب عام 1911، لتبدأ عمليات التنقيب فيها في العالم التالي لذلك مباشرة).
وبينما كنت جالسا في هدوء ساعات الصباح، موجها عينيّ صوب الأطلال و نهر أوبريماك، اللذين تحيط بهما قمم جبال أمباي وبانتا وكويشوار المغطاة بالثلوج، تملكتني مشاعر الدهشة والذهول، ليس فقط بفعل جمال المشهد الذي يمتد أمامي، ولكن كذلك من فرط الهيبة والنفوذ اللذين كانا لإمبراطورية الإنكا.
وقد أعجبت بشكل خاص بالتفاصيل المعمارية الخاصة بمبنى باتشكيوتك الملكي غير مكتمل البناء، والذي ينقسم إلى نصفين، علوي وسفلي.
كل شيء هنا مُشيد على هذه الدرجة من الدقة: نافورات المياه المشيدة باستخدام الصخور كبيرة الحجم، وذلك للحيلولة دون تآكلها وتفتت أجزائها، والمنازل التي وُضعت لها أبواب مزدوجة لإظهار ثروة ونفوذ قاطنيها، إلى جانب الألواح المسطحة الموضوعة أسفل النوافذ لتخزين الطعام فوقها بغرض حفظه وتبريده.
ويتواصل الاهتمام بالتفاصيل ليمتد إلى المنطقة الواقعة أسفل الدرج النازل من الساحة الرئيسية في المدينة، حيث يجد المرء كل شرفة من الشرفات القائمة هناك وقد زُخرفت بأحجار بيضاء اللون على شكل حيوان اللاما.
وقد استُخدمت هذه الحيوانات لنقل المؤن والغذاء للعبيد. وقد وُضعت هذه الزخارف إظهاراً لتقدير أبناء حضارة الإنكا للدور الذي لعبته حيوانات اللاما في هذا الصدد.
ويرى علماء الآثار أن العبيد الذين جُلِبوا من القرى المجاورة، الواقعة على الأرجح إلى الشمال من هذه المنطقة، استُخدِموا لتشييد مدينة “تشاكو كيراو” باستخدام الأحجار ذات الشكل العمودي، وكذلك الحجارة صغيرة الحجم (مثل الحجر الجيري والجرانيت).
ومن المؤكد أنه سيأتي وقت تتغير فيه مدينة “تشاكو كيراو”، عندما تكتمل عمليات مد خط “التلفريك” إلى أراضيها، وحينما تتسع مرافقها، وتزدهر السياحة في أرجائها.
لكن في الوقت الحاضر، تكافئ “تشاكو كيراو” القليلين الذين يتمتعون بروح المغامرة ممن يزورونها، من خلال منحهم الفرصة لإلقاء نظرة ذات طابع حميمي على مدينة تبدو كأنها لم يُعثر عليها بعد تقريبا.
يمثل السفر بصحبة مرشد سياحي السبيل الأمثل للوصول إلى مدينة “تشاكو كيراو”.
وتوفر شركة “أدفنتشر لايف” رحلات تتراوح مددها ما بين خمسة وستة أيام و12 يوما، وتضم كل منها مجموعة يصل عددها إلى 12 شخصا.
وتوفر غالبية شركات السياحة والسفر كل المستلزمات تقريبا لعملائها من خيام، ومواد غذائية، ووجبات خفيفة، وكميات من المياه، وأكياس للنوم، وعصي للمساعدة على السير في المناطق الجبلية والمرتفعات. كما تُستخدم الخيول للمساعدة على حمل غالبية حقائب المشاركين في مثل هذه الرحلات.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel.
مكان رائع جدا جدا
مكان رائع ومكان جميل لترويق الراس