حين يذكر اسم إيطاليا تتبادر إلى الذهن روائع الفن والعمارة والأكل اللذيذ والذوق المتطور، لكن التجوال في أرجائها ومقاطعاتها والبحث في تاريخها الحافل يفتح للزائر وجها مليئا بالغرائب والعجائب. ففيها نحو ثلثي التراث العالمي للثقافة ويفوق عدد المتاحف 4 آلاف وجمالها الطبيعي يبهر الإنسان من الشمال إلى الجنوب.
جولة الخريف قادتنا إلى مقاطعة توسكانا وعاصمتها فلورنسا التي أنجبت رئيس الوزراء الإيطالي حاليا وعمدتها السابق ماتيو رينزي. وفي الجزء الشمالي الغربي من المقاطعة شمال المدينة المنافسة لها وهي سيينا يكتشف الزائر بلدتين صغيرتين تنقلانه فورا ببساط سحري إلى القرون الوسطى وأبنيتها التي تمثل فنون وأعراف تلك القرون المسماة «عصر الظلام الأوروبي». تأرجحت إيطاليا في تلك الفترة بين العنف والتآمر والثورة وبين إنسانية عصر النهضة التي بدأت من مقاطعة توسكانا فأصبحت لغتها المحلية اللغة الإيطالية التي نعرفها اليوم بعد أن مارس (آذار) الكتابة بها كبار الشعراء والكتاب مثل دانتي وبوكاشيو وبترارك.
حين تزور بلدة سان جيمينيانو التي تبعد 27 كيلومترا عن سيينا ستكتشف عن أنها أكثر البلدات التي يزورها السياح شعبية وتشتهر بأبراجها العجيبة التي بناها أبناء الطبقة الأرستقراطية على رأس إحدى تلال المدينة، حيث تنازع النبلاء على السيطرة والنفوذ وتقاتلوا فيما بينهم في القرنين الثاني والثالث عشر محتمين بتلك الأبراج التي كانوا يقطنونها. كان الناس يخشون بأس تلك المدينة الصغيرة في أوائل القرون الوسطى، حيث بلغ عدد سكانها آنذاك 15 ألف نسمة (أي ضعف عددهم حاليا) لأنها كانت على الطريق بين روما وميلانو في الشمال، وكنت تجد داخل أسوارها التي تغلق ليلا 5 أديرة للرهبان و4 مستشفيات وعدة حمامات عامة وبيت للدعارة، لكن البلدة تعرضت للدمار بسبب الحروب المستمرة بين أشهر عائلاتها، وخصوصا خلال النزاع الكبير الذي نشب عام 1246 وحين توقف النزاع واتحد أهلها بدأوا في القتال ضد البلدات المجاورة، وخصوصا فولتيرا حتى قضى انتشار وباء الطاعون عليهم جميعا وكانوا يسمونه «الموت الأسود». أخضعت فلورنسا تلك البلدات المتنازعة وسيطرت عليها ولن يجد الزائر اليوم سوى 15 برجا من أصل 72 برجا بنيت لمتابعة القتال.
* السياحة والباليه
* تعيش سان جيمينيانو الآن على مورد السياحة بعد سنوات طويلة من الفقر وتقدم الكثير من الأنشطة الفنية خاصة رقص الباليه وغناء الأوبرا وأنواع ممتازة من زيت الزيتون. مشينا في وسط المدينة فاستغرق المشوار بين طرفيها نحو ثلث ساعة وفي كنيستها الرئيسية عدة لوحات جدارية ثمينة رسمت في القرن الرابع عشر، وتمكنا من صعود أحد الأبراج المبني عام 1323 وهو توريه غروسا لنرى منظرا بديعا للسهل التابع للبلدة، ويقال إن الكاتب دانتي (1265 – 1321) مؤلف «الكوميديا الإلهية» وقف على شرفة ذلك البرج أثناء زيارته بصفته سفيرا لفلورنسا فيها، وفي البرج لوحة فاضحة رسمت قبل 700 سنة تظهر زوجة النبيل صاحب البرج وهي تعتلي أكتاف زوجها. من علامات المدينة أيضا متحف التعذيب وهو فرع لعدة متاحف من هذا النوع في مقاطعة توسكانا وفيه تعرض أدوات التعذيب المعروفة في القرون الوسطى من آلة قلع الأظافر إلى حزام العفة الذي يضعه الزوج على جسد زوجته للتأكد من طهارتها خلال سفره وغيابه. ورأينا في شارع سان ماتيو وقد حافظوا عليه بعناية فائقة صيدلية قديمة وفيها معروضات التوابل والأعشاب المعروفة في القرن السادس عشر.
* المطبخ
* تعرف المدينة أيضا بمطبخها المشهور خاصة شرائح اللحم المشوية (بيستيكا فيورنتينا بالإيطالية) والكمأة وأصناف الطيور بالإضافة إلى المعجنات والشُربة الثقيلة، ونظرا لكثرة الزوار لا تتسع المطاعم القليلة لتلبية مطالب السياح لذا ترى الموائد منتشرة في الساحات ويشارك الزوار بعضهم بعضا في تناول الطعام وكأننا في وليمة فاخرة يدعو إليها أحد النبلاء. كان الطقس دافئا رغم أننا في أواخر الخريف لذا اختتمنا الوجبة بأفضل بوظة (جيلاتي) تجده في المقاطعة وسر نجاحه الفستق اللذيذ القادم من جزيرة صقلية وهو من صنف «برونته» الذي ينافس الروائح الزكية والنكهة المميزة للفستق الحلبي، وربما كان أصله من هناك حين حكم العرب جزيرة صقلية لمدة 250 عاما.
* فولتير
* فولتيرا بلدة تاريخية استراتيجية تتبع إداريا مدينة بيزا المعروفة ببرجها المائل ولا تبعد كثيرا عن سان جيمينيانو وحين تصل إليها سيدهشك مدخلها المؤثر وقلعتها القديمة الصامدة عبر القرون (روكا فيكيا بالإيطالية) لأنها مبنية على سهل واسع مرتفع وهضاب بركانية تفصل مدينة سيينا القريبة عن البحر ومنظر الهوة العميقة لا يمكن نسيانه. وصفها الكاتب المعروف دي إيتش لورانس بأن الريح تصل إليها من كل مكان فهي جزيرة داخل جزيرة لا يمكن لأي غريب أن يصل إليها دون أن يراه حراسها من علو يفوق 550 مترا، وهي شهيرة بإنتاج المرمر الذي يباع في كل مكان وتجد في متحف المرمر كل ما تريد معرفته عن استخراجه من المنجم من أيام شعوب أتروريا أو أتروسكان التي سكنت إيطاليا قبل الرومان ويقال إنها جاءت من آسيا الغربية (أي تركيا وشمال سوريا حاليا)، وتشتهر كذلك بأن مبنى البلدية فيها هو أقدم بناء بلدي في مقاطعة توسكانا منذ عام 1208.
سيطر عليها أمير فلورنسا في عهدها الذهبي لورينزو ميديتشي العظيم سنة 1472 وكان جده أغنى شخص في أوروبا ومن مكرماته أنه شجع الفن واحتضن الرسام والنحات الكبير مايكل أنجلو وزميله الرائع بوتيشللي، لكن فلورنسا كانت تعج بالمؤامرات وظهر فيها راهب متزمت يدعى جيرولامو سافونارولا (1452 – 1498) ثار على الفساد والانحطاط وكان يعتقد أن فلورنسا هي «القدس الجديدة» وكان له جواسيس من الأطفال الذين جمعوا الكتب واللوحات والسجاد والمفروشات الفاخرة وحرقوها في ساحة المدينة المسماة «ساحة سينيوريا» فحكم عليه بالإعدام حرقا بتهمة الخيانة ثم تم إحراقه في نفس الساحة. تحول السجن الذي زج فيه الكثير من أعوان ذلك الراهب حاليا إلى ما يشبه الفندق الريفي فعليك أن تدفع أجرة محدودة لكي تنعم بالنوم في السجن في غرف أولئك السجناء، أما مطعم السجن فيعمل فيه عدد من السجناء الحاليين في تجربة جديدة تمهيدا لإعادة تأهيلهم للحياة الطبيعية بعد الإفراج عنهم.
لمحبي تذوق الطعام الجيد الذي يودون اختبار شيء مختلف عما تعودوا عليه ننصحهم بحجز طاولة في مطعم «فورتيسا مديتشيا» في سجن فولتيرا قبل شهرين على الأقل كي تتمكن جهات الأمن من التدقيق في سجلهم العدلي قبل تثبيت الحجز، وسيستمتعون بتناول الطعام بمصاحبة عازف البيانو برونو المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة لارتكابه الجرائم قبل توبته. يقوم حراس السجن بحماية الزبائن، بينما يقوم السجناء بخدمتهم وهم في لباس أنيق، ولن تكلفك الوجبة سوى 30 يورو (أو 37 دولارا) للشخص الواحد وفيها المقبلات والمعجنات والصحن الرئيسي، ولا داعي للقلق فإن السكاكين والملاعق مصنوعة من البلاستيك.