مدينة كوباني الكردية تحدد جانباً من سياسة تركيا ودورها في التحالف الدولي. انقاذ المدينة كما وعدت ليس امتحاناً لمدى جديتها في دخول الحرب على «داعش». أعلنت وتعلن استعدادها للتدخل ميدانياً في سورية. لكن موقفها مما يحدث في شرق شمالي سورية واضح منذ اليوم الأول. لا تريد التدخل ما دام أن الحرب على عين العرب تستنزف الطرفين، الجهاديين من جهة و»قوات الحماية الشعبية» القريبة من حزب العمال الكردي من جهة ثانية. كما أن تدخلها يبقى رهن ضوء أخضر من شركائها في حلف «الناتو» خصوصاً الولايات المتحدة. لا تملك حرية تامة للتصرف. أبدت استعداداً لشن عمليات ضد «الدولة الإسلامية» وضد قوات النظام السوري. والهدف الأخير له محاذير ميدانية يمكن أن تجبر أعضاء الحلف على الإنجرار إلى مواجهة لا يتوافر لها اجماع الأعضاء المشاركين. فماذا إذا واجه تدخلها ردوداً من دمشق أو طهران وموسكو؟ ليس هذا المحظور الوحيد. يثير دخول قوات تركية أراضي سورية حفيظة العرب المشاركين في الحملة أيضاً.
هؤلاء العرب لم ينخرطوا في القتال رغبة في القتال. لهم مبرراتهم وأسبابهم. بين الأسباب بالطبع المخاوف التي أثارها تمدد «الدولة الإسلامية» وانعكاس ذلك على أمنهم الداخلي. فضلاً عن أن طروحات «الجهاديين» تشكل في المبدأ تحدياً لهوية دولهم و»إسلام» مجتمعاتها. والأهم من ذلك أن هؤلاء العرب المشاركين في الحرب يريدون ترجمة أو استثمار هذه المشاركة سياسياً. يريدون توكيد قدراتهم الذاتية على صون أمنهم وأمن الإقليم «العربي»، في مواجهة «الآخرين»، إيران وتركيا وروسيا وغيرها. وبالتالي لن يهضموا تدخلاً تركياً على الأرض السورية، وهم لم يهضموا حتى اليوم تدخل إيران وما تملك من أوراق. بل إن اندفاعهم إلى المشاركة في الغارات سبيلهم إلى حجز موقعهم وكلمتهم في أي تسوية سياسية في بلاد الشام كلها. حتى مصر البعيدة والمنشغلة لن يروقها تدخل الجيش التركي أو دخوله. قد لا تسمح لها الظروف اليوم أن تكرر ما فعله الرئيس جمال عبد الناصر في الخمسينات عندما أرسل أسطوله إلى اللاذقية خوفاً من نشوب حرب في المنطقة إثر قيام «حلف بغداد». لكنها لن تعدم وسائل الاعتراض، عبر حلفائها الخليجيين وغيرهم من دول الجوار السوري.
لا خلاف على أن لتركيا دوراً جوهرياً في التحالف الدولي. موقعها الجغرافي يجعلها رأس حربة في قتال «داعش» في سورية والعراق معاً. لذلك ارتاحت دول التحالف عندما عادت أنقرة عن موقفها المتحفظ في مؤتمري جدة وباريس. بدت هذه الدول كأنها وجدت أخيراً ضالتها. عاد الطرف الغائب الواجب حضوره. لذا لم يجاف رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو الصواب عندما قال إن أي بلد آخر لا يملك تأثير تركيا في الأحداث الدائرة في سورية والعراق، كما أن ما من بلد سيتأثر بهذه الأحداث مثلها. لكن إجازة البرلمان التركي للجيش التدخل في هذين البلدين والسماح باستقبال قوات أجنبية منضوية في التحالف الدولي لا تعني أن شركاءها ينتظرون تحديد ساعة الصفر لانضمامها إلى العمليات العسكرية. أنقرة مثلها مثل باقي عشرات الأعضاء في هذا التجمع الكبير، لديها شروطها السابقة وحساباتها الخاصة. افصحت عنها ولم تخفها منذ اليوم الأول. تريد الموافقة على إقامة منطقة عازلة يحظر فيها الطيران السوري، وضمان عدم تسليح الأكراد بعتاد نوعي متطور وحماية المناطق «المحررة» من نظام الرئيس بشار الأسد تمهيداً لإسقاطه. وجادلت طويلاً قبل قيام التحالف بأن من أسباب انتشار «داعش» هو الظلم الذي لحق بأهل السنة في كل من العراق وسورية. وهي هنا لا تختلف عن كثيرين يعتبرون أن ما حصل نتيجة طبيعية للسياسات التي تنهجها إيران، وكذلك تلك التي اعتمدها معظم الشركاء في التحالف حيال ما جرى ولا يزال من دمشق إلى بغداد.
والواقع أن لتركيا الحق في أن تصر على لائحة شروط وأهداف وأولويات. تريد، كما فرنسا إلى حد كبير، أن تبدو مستقلة بقرارها عن الدور القيادي للولايات المتحدة. وهو ما يعزز صورتها في مواجهة المعارضة الداخلية، وفي الشارع العربي والإسلامي عموماً. كما أن أنقرة، مثل باريس وشركاء آخرين، لم تعد تثق بسياسة الرئيس باراك أوباما، بعد تجربة الكيماوي العام الماضي عندما تراجع عن ضرب دمشق في اللحظة الأخيرة. وهي تعي جيداً أن الشركاء اتفقوا على التحالف لقتال «داعش». لكنهم لم يتفقوا على الخطط والأهداف النهائية لهذه الحرب الجديدة والأولويات. هذا سبب جوهري يجعلهم لا يعرفون متى تنتهي. لم يصدف أن توافقت عشرات الدول على خوض مواجهة واسعة على امتداد بلاد الشام وكل واحدة منها لها مبرراتها وأجندتها الخاصة من هذه المواجهة. وهذا أيضاً سبب في غياب تحديد واضح لدور واحد مشترك أو لدور كل قوة مشاركة. بعضهم يركز على المسرح العراقي وآخرون على السوري وغيرهم لا يرى سوى المناطق الكردية هنا وهناك. حتى الدول التي لم تنضوِ في هذا التحالف تختلف نظرة كل منها إليه. لكنها كلها لا تبدي انزعاجاً بل تعد العدة بثقة وثبات لتنال حصتها من الحصاد الأخير مهما تأخر!
نجحت إدارة الرئيس باراك أوباما في دفع هذه المجموعة الدولية والإقليمية الكبيرة إلى المشاركة في الحرب على «الدولة الإسلامية» من دون أن تقدم أهدافاً نهائية. كأن المطلوب أن تظل الجبهة في المنطقة مفتوحة، كأن القضاء على هذه «الدولة» سريعاً ليس الهدف الآني. لعل احتواءها هو الهدف الملح لضمان بقاء النار مشتعلة حتى انهاك من يجب انهاكهم. وثمة مؤشرات إلى أن إدارة أوباما تركز على الساحة العراقية. وهدفها من الغارات التي تشنها على «داعش» في سورية وضرب المصافي وآبار النفط هو قطع كل منابع التمويل التي تعزز قواتها في العراق. علماً أن هذه الغارات تساهم في تدمير ما بقي من بنى ومعالم وأوصال في هذا البلد. لم تبد اهتماماً بضرب «جبهة النصرة» على رغم أنها فرع من فروع «القاعدة»، وتسيطر على مناطق واسعة في الجنوب والشمال السوريين. بل بدا في الأيام الأخيرة أن ثمة قراراً بتحييد هذه «الجبهة» واستثنائها من الغارات، لئلا تشرع الأبواب أمام تقدم قوات نظام الرئيس بشار الأسد لملء الفراغ الذي يخلفه انسحاب جنود «أبي بكر البغدادي».
هذا الاستثناء يطرح كثيراً من الأسئلة عن جدية أميركا في ضرب جميع «الجهاديين» في سورية حالياً وتسليح الفصائل المعتدلة بما يمهد لتسوية سياسية بعد تغيير ميزان القوى على الأرض. معروف أن من أسباب امتناع إدارة أوباما عن تسليح «الجيش الحر» عتاداً فاعلاً ونوعياً خوفها من وقوع هذا السلاح في أيدي المتطرفين. كانت تقلقها ولا تزال نظرةُ بعض فرق هذا الجيش إلى «النصرة» فصيلاً يساهم في الحرب على النظام. بخلاف النظرة إلى «داعش» التي حيدتها دمشق وأطلقت يدها في قتال باقي المعارضين على الأرض، بغية إضعاف هؤلاء من جهة، وتقديم المعارضة إلى العالم «مجموعة من الإرهابييين»! أل يقود تحييد «النصرة» مرحلياً إلى بقاء الخوف الأميركي من انتقال السلاح النوعي إلى «الجهاديين؟
واضح من سير العمليات أن لواشنطن حسابات في سورية تختلف عن حساباتها في العراق. وتختلف عن حسابات باقي الشركاء، من دول عربية وتركيا وفرنسا وغيرها. تلتقي وإيران في مساعدة بغداد على التخلص من «داعش». وتزيد في تعزيز سلطات إربيل ومضاعفة القدرات العسكرية لقوات «البيشمركة» لتكون مؤهلة جيداً ومستعدة للدفاع عن الإقليم إذا كان لا مفر مستقبلاً من تغيير خريطة الشرق الأوسط وولادة كيانات جديدة. لكن إدارة أوباما تحاذر إغاظة إيران الحساسة حيال مصالحها في سورية ولبنان تالياً، لئلا ينعكس ذلك على موقفها في المحادثات الخاصة بالملف النووي، وفي سعي الغرب إلى ما يسميه إعادة تأهيل الجمهورية الإسلامية لتكون لاعباً إيجابياً في المجتمعين الإقليمي والدولي. مثلما تحاذر أيضاً إثارة روسيا على رغم ما بينهما في أوكرانيا.
رغبة تركيا في التدخل ميدانياً في سورية قد لا تترجم سريعاً في ظل التركيز الأميركي على الساحة العراقية. ولم تتقاعس أنقرة وحدها عن نجدة كوباني، مع أن قواتها قادرة على التدخل من دون اجتياز الحدود. طائرات التحالف تأخرت أيضاً في الإغارة على «داعش» التي تحاصر هذه المدينة. انشغلت بقصف مقرات ومواقع للتنظيم شرق سورية وبضرب مصاف وآبار نفط … تسهيلاً للمواجهات في العراق. الساحة السورية مؤجلة على نار هادئة، إلى أن يجهز تدريب خمسة آلاف من «الجيش الحر». وهو رقم ليس كافياً لتغيير ميزان القوى على الأرض. هذا ما قاله جنرالات البنتاغون. وهذا ما يعرفه «ائتلاف المعارضة». إذاً لا بد من أن ينتظر السوريون شيئاً آخر غير تدريب بضعة آلاف… ومعهم ستنتظر تركيا والعرب الراغبون في التغيير في دمشق. سينتظرون التفاهم الأميركي – الإيراني. فلا وجه شبه بين ما حدث لنوري المالكي وما يمكن أن يحدث للرئيس بشار الأسد. ظروف البلدين مختلفة، وتوزيع القوى مختلف، وكذلك مصالح القوى الداخلية والخارجية. صحيح أن أميركا عادت إلى العراق لكن إيران لم تخرج منه. كما أن النظام لا يزال قائماً وإن دخلت عناصر ومكونات جديدة في اللعبة السياسية. أما في سورية فالمطلوب تغيير النظام. والتدخل العسكري الخارجي لإسقاطه بالقوة يفتح مواجهة واسعة مع كل من موسكو وطهران التي لن تساوم. فهل التحالف مستعد لمجاراة رغبات رجب طيب أردوغان وشروطه في التغيير أم يساعده فقط على إقامة شريط عازل وآمن في انتظار تسويات؟