لم يقدَّر للمنطقة أن تعيش مرحلة معقدة ومفصلية على غرار هذه المرحلة أقله منذ أكثر من نصف قرن. ويزداد المشهد تعقيداً متى نظرنا الى العلاقات، لا سيما بين من اصطلح على اعتبارهم في محور واحد أو حتى حلفاء. لم يسلم من هذا الاضطراب السياسي والأمني إلا قلة من دول المنطقة، وهي نفسها وإن لم تطاولْها الشرارة الامنية٬ لم تسلم من تداعياتها السياسية.
وعلى رغم ان الحراك الشعبي في أكثر من دولة كان السبب المباشر لإذكاء الفوضى العارمة في المنطقة، فإن أسباباً اخرى سياسية واقتصادية واجتماعية كامنة رافقت السبب الرئيس.
واذا صح أن الحراك العربي من تونس إلى سورية هو السبب الأول، فإن هذا لا يعني أن أداء الدول الكبرى والفاعلة منها لم يسعر هذه الفوضى، وسط الانطباع السائد بأن القوة الأميركية العظمى أربكتها هذه المتغيرات في المنطقة، ما جعل العديد من المراقبين والمحللين يحملونها مسؤولية رئيسة عن هذا الاضطراب غير المسبوق والذي بلغ أوج تجلياته في الحرب الدائرة في سورية التي تشارف دخول سنتها الرابعة.
المسؤولية الرئيسة أن هذه القوة العظمى لم تتحرك على ما يرغب البعض لاحتواء هذا الاضطراب أو تلك الفوضى بما لها من نفوذ وتأثير في المنطقة من جهة، وعلى القوى الخارجية الأخرى مثل روسيا والصين من جهة أخرى. وتقابل وجهة النظر هذه وجهات نظر أخرى أكثر تسامحاً، أو ربما أكثر واقعية تجاه السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الاوسط.
بيد أن التسامح أو الواقعية لا يعنيان رفع مسؤولية ما يحصل عن الأداء الأميركي في المنطقة، على رغم ان الديبلوماسية الأميـركية ناشطة في الـشرق الأوسـط بزخم مدهش، عبر معالجة متزامنة لثلاثة ملفات معقدة للغاية: سورية والنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني وإيران، ويبدو أنها قد تحقق تقدماً في الملف الأخير.
يعزو البعض هذا النشاط إلى عزم وحنكة يتكتع بهما وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي يركز على ما هو ممكن متجنباً التطلعات الكبرى، ويتعامل مع الجهات الفاعلة مباشرة بواقعية سياسية هدفها تحقيق الممكن والقابل للتنفيذ. وكما أنه يصعب لوم ديبلوماسي لمحاولته الضغط للحصول على أقصى ما يمكنه الوصول اليه، يصعب ايضاً الاكتفاء بفاعلية علاقات كيري الشخصية وفطنته السياسية، لا سيما في مواجهة الحراك الذي تشهده المنطقة والذي بات خارجاً عن السيطرة.
إعادة تموضع
إضافة إلى الثورات العربية التي لا يمكن التكهّن بنتائجها، يمر الشرق الأوسط أيضاً بمخاض إعادة تموضع جيوسياسي يصعب توقع عواقبه. ففيما تلعب إيران دوراً أكبر من حجمها الطبيعي، ينكفئ دور مصر في هذه المرحلة في ظل الاضطراب السياسي الذي تعيشه، علماً أن الأمور قد تتغير في المستقبل بعد تخلصها من الفوضى التي تسبب بها حكم «الاخوان المسلمين» لمدة سنة واحدة من الفشل. أما المملكة العربية السعودية، وفي نقلة غير مسبوقة، فتعتمد سياسة جريئة بعد عقود من سياسة محافظة. وفي المقابل نرى إسرائيل تمعن في سجن نفسها على نحو متزايد وراء الجدران الإسمنتية والأسوار المكهربة والدروع الحديد، معتمدة سياسة واحدة هي سياسة الدفاع. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى المناخ الذي تعيشه المنطقة بعامة وسمته الرئيسة تحول الأصدقاء إلى أعداء وتفكك تحالفات تاريخية، بحيث لم يعد يوجد مقياس واحد يساعد على إدراك ماهية الصراع.
وفي هذه المتاهة، من غير المرجح أن تحقق الأساليب التي ينتهجها جون كيري حتى أنصاف الحلول التي يسعى إليها: اتفاق موقت مع إيران، واحتمال التوصل إلى وضع إطار اتفاق بين الإسرائيليين والفلسطينيين وعقد اجتماع لتشجيع الحلول السياسية في سورية. وإذا تم التوصل إليها، قد يرى البعض أن أنصاف الحلول هذه ربما تشكل الخطوات الأولى لفرصة تحقيق صفقات استراتيجية أكبر وأكثر أهمية لا بد من الإفادة منها بسرعة. إلا أن الوضع الحالي في المنطقة يحعل من هذا الاحتمال أمراً صعب المنال.
تسود الشرق الأوسط اليوم ذهنية الجشع السياسي والسعي وراء الأهداف القصيرة المدى وسط ضمور الفكر والتخطيط، ما يرجح أن تؤدي سياسة الصفقات الموقتة الجاري اعتمادها إلى مزيد من انعدام الثقة المنتشر وتسعير حسابات الربح والخسارة، والدفع بالقادة إلى إرضاء الأكثر تطرفاً في دولهم، وتفعيل أدوار الجهات المعترضة عليها والرافضة لها.
وبالنظر إلى الفوضى التي تعم المنطقة، تبدو الحاجة ملحة إلى خطوات أكثر جرأة ووضوحاً لتثبيت الاستقرار السياسي والاجتماعي. ونعود هنا إلى ما سبق أن أكد ضرورته أكثر من متابع لشؤون المنطقة، ومؤدّاه وجوب قيام الولايات المتحدة بمبادرة تحدد أسس تسوية كبرى بالتنسيق مع الجهات ذات المصلحة في تحقيق الاستقرار مثل الاتحاد الاوروبي، والأفضل أيضاً، إنما الأصعب، بدعم من الصين وروسيا (بعبارة أخرى مجلس الأمن الدولي). وستكون هذه الخطوة بمثابة اعتراف واضح بوجود المنطقة كمساحة جيوسياسية، وليس كمجرد مجموعة من المصالح العشوائية التي تتضارب في كثير من الأحيان.
وتحتاج هذه الأسس – المبادرة إلى معالجة ثلاثة مصادر رئيسة للشك والريبة، أولها الأمن الإقليمي وبخاصة خطر انتشار أسلحة الدمار الشامل، وثانيها التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى (البحرين، لبنان، العراق، سورية، اليمن، وغيرها) وضرورة اتفاق القوى الإقليمية على وضع حد له، وثالثها، إيجاد حل دائم للنزاع العربي – الإسرائيلي.
طموحات كبرى؟ طبعاً لا، إلا إذا كان يعتقد أن مشاكل المنطقة هي أصغر من المشاكل التي تسعى مجموعة الحلول هذه إلى تسويتها.
سلّة واحدة
إذا وضعت مجموعة الدول الخمس إطار حل لهذه المشاكل الثلاث وقدمته إلى المنطقة كسلة واحدة، من شأن ذلك تحقيق الاستقرار فيها وارضاء جميع الأطراف (حتى ولو لم يرغبوا في الاعتراف بذلك). فالسعودية ستتمتع عندها باستقرار إقليمي جراء وضع حد لطموحات إيران الإقليمية، وسيتاح لمصر التفرغ لحل مشاكلها الداخلية مع حصولها على ما كانت تسعى إليه دائماً وهو منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وستنعم إسرائيل بالأمن وبالقبول في محيطها العربي من خلال مباردة السلام العربية، وسيُحترم دور إيران كلاعب إقليمي، مع الحد من تدخلاتها الواضحة في بلدان عربية عدة، كما سيحترم دور تركيا كرابط بين كل هذه الدول.
إن احتمال موافقة اللاعبين الإقليميين في الوقت الراهن على هذا التصور ضعيف جداً، إذ أنهم يفضلون الصفقات الموقتة مع ما توفره لهم من فرص لمواصلة الإفادة من الوضع الراهن حتى ولو كان ذلك لغير مصلحتهم. وستشكل هذه الأسس مرجعاً دائماً للشرق الأوسط ودليلاً للقوى العالمية حول إدارة المنطقة التي أصبحت «منطقة وحشية» خصبة في خلق النزاعات بدلاً من المساهمة في الحضارة الإنسانية مساهمة إيجابية.
تعم المنطقة اليوم فوضى متشابكة لا يمكن لأي عبقرية ديبلوماسية حل كل قضية فيها على حدة، بل يتطلب الأمر وضع مجموعة جديدة من قواعد العمل السياسي تبعث على الثقة وأن لا يُترك الشرق الأوسط من دون معايير واضحة تحددها القوى العظمى لوقف السياسات السائدة فيه والقائمة على الخداع والحيل والتي تهدف إلى تسعير الأحداث الراهنة على حساب المستقبل.
غالباً ما تعامل الغرب مع المنطقة وفقاً لنظامها العشوائي من دون أن يسعى جدياً لوضع إطار للعلاقات يحدد بشكل واضح الحاجات والمصالح بعيداً من الحسابات الذاتية. هل سترفض أو هل تستطيع أن ترفض جميع الجهات الفاعلة الإقليمية اقتراحاً تتقدم به القوى العالمية؟ قد يفعل البعض، إلا أن البعض الآخر وعلى رغم انعدام الثقة، قد يجد فائدة في هذا الاقتراح ويعمد في نهاية المطاف إلى إخماد نار الأزمات المندلعة لمصلحة الاستقرار الإقليمي. طبعاً لن تتمكن هذه الخطوات من معالجة المشاكل الداخلية لكل دولة في المنطقة، ولكن وعلى أقل تقدير، ستدير كل منها شؤونها في بيئة إقليمية مستقرة من دون تدخّل دول أخرى.
للأسف لا تزال الديبلوماسية الأميركية تلعب ضمن نظام الخداع والمكائد السائد في المنطقة مع احترام مفرط لثقافة الصفقات الموقتة المحلية المتغلغلة فيها.
وختاماً يجدر القول إنه على رغم عناد القادة، ما تطلبه الشعوب اليوم، وهو العامل الذي ينبغي استثماره، هو تحديد اتجاه جاد وواضح على المدى الطويل يفرض على الجميع التزامه قبل السقوط في الهاوية.
________________________________
* إعلامي لبناني
** ديبلوماسي كندي سابق ومدير برنامج الشرق الاوسط والمتوسط في مركز توليدو – مدريد