شتوتغارت مدينة تائهة بين مملكتين

تمتلئ ساحة «شيلربلاتز» Schillerplatz المخصصة لسوق عيد الميلاد في الحي القديم في شتوتغارت بالأكشاك الخشبية المزينة بالأشرطة والمصابيح الملونة، وتصدح منها أنغام الفرح التي تستحضر زمن الطفولة للكثيرين منا. أما الرائحة التي تعبق في ذلك المكان، فهي مزيج من عبير الفانيليا والقرفة والمشروبات الساخنة، إلى جانب الحلويات التي تجهز خصيصاً في تلك الفترة. هكذا يتحضر أهل المدينة لاستقبال عيد الميلاد ورأس السنة الجديدة، فيحولون «عاصمة السيارات الفخمة» إلى بقعة جميلة تمتزج فيها العادات والتقاليد القديمة، مع الصناعات والابتكارات العصرية.

من تلك الساحة المزدحمة بالباعة والمتبضعين وصيحات الأطفال، بدأت رحلة الثلاثة أيام لاستكشاف عاصمة ولاية بادن فورتنبيرغ، والمدينة التي أهدت العالم سيارات «مرسيدس» و «بورش» الفاخرة.

اليوم الأول

جولة سريعة في «شيلربلاتز» كانت كافية لأتوجه نحو فندق «شتايغنبرغر غراف تسبلن» Steigenberger Hotel Graf Zeppelin محملاً بالأكياس المليئة بالمنتجات اليدوية التي تصنع محلياً لبيعها في تلك المناسبة. في بهو الفندق تصدح موسيقى العيد أيضاً ولو بصوت خافت حرصاً على عدم إزعاج النزلاء. أما في إحدى الزوايا فتشعشع كرات الزينة الملونة المتدلية من شجرة الميلاد الضخمة التي كان يتجمع حولها العديد من الضيوف لالتقاط الصور التذكارية.

البهجة كانت تخيم على الأجواء في أروقة الفندق، وكذلك في الخارج حيث انطلقت لزيارة متحف «مرسيدس بينز» Mercedes-Benz Museum» الذي هو نموذج يحتذى به في عالم البناء والهندسة. في داخله، تهت في عالم هذه الشركة العملاقة، وفي تاريخها المكلل بالنجاح والذي تحكيه الصور المعلقة على الجدران في طابقه العلوي حيث شاهدت أول إنتاجات «مرسيدس بنز» عام 1926. وتتنوع معروضات المتحف من سيارات قديمة الطراز إلى آخر الابتكارات العصرية. ولا يبخل المتحف بعرض أولى المحاولات البدائية عند تصميم السيارات، ومراحل تطورها، لتأخذ الشكل الذي نراه اليوم.

ولأن شتوتغارت هي مدينة السيارات، فقد عرجت إلى متحف «بورش» Porsche Museum الذي لفت انتباهي بشكله الحديث الذي تبرز فيه الديناميكية، لتتماشى مع السيارات الرياضية التي تنتجها. دخلته عبر الطابق الأول، وتعرفت من خلال أرشيفه الذي يرقى إلى عام 1931 إلى أولى منتجات «بورش». كما اكتشفت من خلال جولتي فيه كيفية صناعة السيارات، والبراعة والدقة في تصميمها.

ومن متاحف السيارات الحديثة انتقلت إلى قصور شتوتغارت التي لكل منها قصة تستحق أن تتعمق بكافة فصولها. قصر العزلة «شلوس ساليتود» Schloss Solitude كان أول القصور التي زرتها، وهو يزيح الستار عن آخر روائع المباني الباروكية الملكية التي شيدت على الأراضي الألمانية. ففي عام 1764 طلب «كارل أويغن» دوق فورتمبيرغ بناء هذا القصر، لأنه كان يحلم بجعل شتوتغارت فرساي الثانية. وقد دفعه حبه الأعمى لمظاهر الترف والثراء إلى بناء قصور مماثلة في رحاب شتوتغارت، ولذلك أفلس من كثرة تبذير المال، وقبل قروضاً ضخمة من الحكومة الفرنسية مقابل الحفاظ على أعداد كبيرة من قوات الدعم في فورتمبورغ.

في القصر يغوص الزائر في حياة القصور في القرن الثامن عشر، وكيف كانت تعيش العائلة المالكة في رحابه، وتستمتع مع ضيوفها بحفلات الباليه والعروض الفنية التي كانت تقام في مسرح القصر عند إطلالة كل مساء.

اليوم الثاني

شتوتغارت هي واحدة من المدن الأكثر أناقة في ألمانيا. فبين العمارات الحديثة والحدائق والمنتزهات، تطل عليكم قصورها التي استكملت استكشافها في اليوم الثاني. في وسط المدينة كنت أمام القصر الجديد «نويه شلوس» Neues Schloss الذي بني أيضاً بطلب من دوق فورتمبورغ «كارل أويغن» عام 1746. وقد أخبرني المسؤول عن العلاقات العامة في القصر أن طابقه العلوي شهد عام 1920 ولادة «ريتشارد فون فايتسكر» Richard von Weizsäcker الذي ترأس جمهورية ألمانيا الاتحادية بين 1948 و1994. ويستخدم القصر اليوم كمقر لعدد من الوزارات وإدارات الحكومة المحلية.

وكم هو جميل ذلك المكان بهندسته الباروكية التي أعيد رسم معالمها من جديد بعدما تعرض للدمار الشامل خلال الحرب العالمية الثانية. تمتد أمام القصر ساحة «شلوسبلاتز» Schlossplatz التي لها في قلوب سكان شتوتغارت مكانة خاصة. فهي القلب النابض الذي يستقبل المهرجانات والاحتفالات الفنية والعروض العسكرية، وسوق عيد الميلاد الذي يرتاح في أحضانه كل عام. وأمر من جديد في ساحة «شيلربلاتز» التي يتوسطها تمثال ضخم للشاعر والفيلسوف والمؤرخ الألماني «فريدريك شيلر» الذي يعتبر إلى جانب «غوته» من مؤسسي الحركة الكلاسيكية في الأدب الألماني. فأتوقف لبرهة من الزمن أمام التمثال، وأستذكر قصيدته «إلى السعادة» التي لحنها «بيتهوفن» وفيها يمجد «شيلر» الرغبة الإنسانية الجارفة نحو السعادة، على رغم الآلام التي تكبل روح الإنسان.

وأتابع المشوار لأتسلل إلى شارع «كونيغشتراسيه» Königstrasse أهم شوارع المدينة التجارية. فيه تمتلئ واجهات المتاجر بآخر صيحات الموضة، وبالماركات العالمية والمحلية التي تغري المارة بشكلها الأنيق وتدعوهم إلى الداخل. ولا تكتمل زيارة شتوتغارت من دون التوجه إلى «برج التلفزيون» Stuttgart TV Tower. فهذا البناء العملاق الذي يصل ارتفاعه إلى 216 متراً، هو مصدر فخر واعتزاز لأهل المدينة، ليس بكونه أول برج للتلفزيون في العالم، بل لأنه كان القدوة للكثير من المدن الألمانية والعالمية لبناء أبراج مماثلة، كتلك الموجودة في العاصمة الألمانية برلين، وفي مدينة سياتل الأميركية، وفي مدينة جوهانسبورغ في جنوب أفريقيا. من المنصة المخصصة للمراقبة في أعلى البرج، استمتعت بإطلالة رائعة على المدينة، وعلى جبال «شفابن» الساحرة، وأحسست أنني على مرمى حجر من الغابة السوداء الأسطورية.

اليوم الثالث

يوم جديد في شتوتغارت، ولكن ليلتي الماضية أمضيتها في رحاب فندق «الثوف أم شلوسغارتن» Althoff am Schlossgarten الذي يجمع في ديكوره بين الكلاسيكية والعصرية. لا يبعد هذا الفندق الفخم سوى بضع دقائق عن أهم شوارع المدينة التجارية، وعن وسطها الأخضر حيت الحدائق والمنتزهات تمتد على مدى النظر لتدخل البهجة إلى القلوب. برودة الطقس لم تمنعني من القيام برحلة في عباب نهر «نيكار» الذي ينبع من الغابة السوداء، وينساب في العديد من المدن الألمانية منها شتوتغارت. وسط طبيعة خلابة وساحرة أبحرت على متن يخت حديث، وبدأت تبرز أمامي معالم المدينة السياحية الواحد تلو الآخر.

من قلب شتوتغارت المائي عدت إلى برها لأدخل كنيسة «سبولكرال» الصغيرة Sepulchral Chapel الراقدة على إحدى التلال. وقد علمت أنها شيدت بين عامي 1820-1824 بناء على طلب الملك «ولهالم الأول» تخليداً لذكرى زوجته الملكة «كاترينا» التي توفيت وهي في ريعان شبابها.

ولم أنهِ جولتي في شتوتغارت من دون زيارة بلدة لودفيغسبيرغ التي تبعد مسافة 12 كيلومتراً عن قلب المدينة. هناك كنت وجهاً لوجه أمام قصر «لودفيغسبيرغ» Ludwigsburg Palace الذي بدأ حكايته عام 1704 كمركز للصيد لدوق فورتمبورغ العاشر «إيبرهارلد لودفيع». ولكن في عام 1718 انتقل إليه أفراد أسرة فورتمبورغ الأرستقراطية جاعلين منه مكان إقامتهم الدائم. وقد شرع كل من تعاقب على القصر في إضافة المباني الجديدة عليه، ليصل عددها اليوم إلى ثمانية عشرة مبنى، تضم 452 غرفة. وهذا ما يجعله أكبر قصر باروكي في ألمانيا، ومن أجملها على الإطلاق.

اشتهرت أسرة فورتمبورغ بحبها للفن، فكانت تقيم الحفلات في مسرح القصر الخشبي الذي كان يضاء بواسطة الشموع والمصابيح التي تشعل بالزيت. وكان يتوجب على خادمات القصر حمل أوعية الماء والبقاء متيقظات في حال نشوب حريق. وخلال رحلة استكشاف القصر أثار إعجابي ودهشتي الجناح المخصص للخدم. فعلى رغم مظاهر الثراء الفاحش على جميع أجنحته، بقي جناح الخدم أشبه ما يكون بزنزانات ضيقة، مظلمة، ومن دون شبابيك. وخلال فترة حكم الدوق «فريديريك الأول» الذي توج أول ملك على مملكة فورتمبورغ عام 1806، كان يستخدم أكثر من 1000 خادمة، وكان يولي أهم خدام القصر مسؤولية مساعدته كل صباح على ارتداء الزي الملكي، وكانت تلك العملية تستغرق أكثر من ساعة ونصف الساعة.

وأترك القصر ماراً في حدائقه التي تمتد على مساحة 30 هكتاراً. ثم تسلك السيارة التي كانت تنتظرني في باحة القصر طريقها إلى وسط شتوتغارت. ومع حلول الظلام كان علي العودة إلى لندن، فودعت المدينة التي استقبلت بين عامي 1806-1918 مملكة فورتمبورغ، وهي اليوم مملكة رائدة ومزدهرة في صناعة السيارات والابتكارات الحديثة.

+ -
.