فيلم «يونان» لأمير فخر الدين: المنفى حالة شعرية

فيلم يونان للمخرج أمير فخر الدين
  • سليم البيك – القدس الغربي

فيلم عربي وحيد في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي، هذا بحد ذاته خبر يسبق المشاهدة، فالأفلام العربية عموماً، اكتفت، إلا باستثناءات بين عام وآخر، بالمسابقات الموازية، على أهميتها تحديداً «نظرة ما» في مهرجان كان السينمائي. انفتاح البرليناله على أسماء جديدة أكثر من غيره، والمشاركة الألمانية في إنتاج الفيلم، واستحقاق الفيلم بطبيعة الحال، أسباب منحت «يونان» لأمير فخر الدين، ابن الجولان السوري المحتل، مكاناً في واحدة من أفضل 3 مسابقات رسمية سينمائياً.

التناول النقدي للفيلم، لذلك، يكون بمستويين: في كونه فيلماً عربياً، وفي كونه منافساً في المسابقة.
حصرُ التناول في أحد الجانبين يخلّ بالتقييم.. فعربياً، هو من بين الأفضل في السنوات الأخيرة، يمكن اعتباره نقلةً جمالية في السينما العربية استحقت أن تُنافس على مستوى عالمي. برليناليّاً، يصعب أن ينافس الفيلمُ معظم أفلام مسابقة هذه الدورة، ببرمجتها الجيدة، لكن هذا القول لا يكون مقتطَعاً، فـ»يونان» هو الفيلم الثاني لمخرج شاب، زاحم أسماء كبيرة وآخرين بتجارب طويلة في هذه المسابقة، وهذا بحد ذاته تنويه شديدة الإيجابية تجاه الفيلم والتفاؤلية تجاه مسار مُخرجه، وهي حالة استثناء عربية تفرح القلب وتحفّز العقل.
استحق الفيلم الدخول والمزاحمة والمنافسة، بمعزل عن الجوائز، الأخذ بعين الاعتبار كل ما ذكرته أعلاه، يجعل من الفيلم حدثاً عربياً وسينمائياً نال مسبقاً تكريماً مستحقاً في أن يجد في البرليناله، بمسابقته الرسمية، منطلقاً له، عرضاً أوّل. يكفي الفيلمَ أنه زاحم أفلاماً لأسماء كبيرة مثل هونغ سانغسو وريتشارد لينكليتر ورادو جود وآخرين، على الدب الذهبي وغيره من الدببة الفضية.
في الفيلم (ميتافورا للإنتاج) منير، روائيٌّ عربي، يعيش منفاه في هامبورغ. في مشهد أول يخبره الطبيبُ بأن لا مشاكل تنفّس لديه وأنه فقط يحتاج إلى الاستراحة من نمط حياته، كالمشي في الطبيعة. يطلب من صديقته الألمانية الاعتناء بكلبه ويخرج إلى جزيرة نائية، حاملاً مسدساً بنيّة الانتحار. هناك، في ما بدا صحراء خضراء محاطة بمياه البحر، وجد فندقاً صغيراً فتعرّف إلى صاحبته، امرأة مسنّة قد تمنحه قليلاً مما احتاجه، من حنان أمومي يخفّف من وطأة المنفى. وهناك، يلتقي بآخرين، قليلين، لكن لا شيء يخرجه من حالة اكتئاب بدت مزمنة.
الفيلم ممتلئ بمشاهد تأملية. ليس في الجزيرة التي تغمرها المياه بين وقت وآخر، سوى تلال وأبقار، وأمواج تهدّد المكان ببيوته القليلة، وسماء دائمة التلبّد، ورياح عاتية. المكان بحد ذاته باعث أوّلي على الاكتئاب. السيدة الألمانية وحسب، كانت المخلّص لمنير، بعفويّتها، بتعاملها الأمومي معه، أو ما شعر به هو كذلك. هو المبتعد عن أمّه وبلاده، فتقابلَت في نفسه السيدة والجزيرة من جهة، وأمه وبلاده البعيدتان من جهة أخرى. أما الواصل بين جهتَي التقابل فهو ما بدا الرواية، التي يحاول التقدم في كتابتها، عن راعٍ وزوجته، في بلاد قاحلة، صحراء كهذه الجزيرة لكن ترابية، وقد استُبدلت الخرافُ بالأبقار. القرين الأدبي لمنير في روايته كان هو ذاته، بشعر أقصر لكن بملامح المكتئب المرتبك ذاتها، يحتضنه الراعي وزوجته، يطعمانه، كما فعلت السيدة التي استضافته في فندقها.
منير المنعزل تماماً، نفسياً، عن الجميع في الفندق والجزيرة، والباحث عن حنان متخوّف منه، لم يخرج عن حالة المتوجّس تلك، إلا بتشغيل السيدة لأغنية «حوّل يا غنّام»، بنسخة عتيقة، بصوت سهام رفقي، أرجعته إلى بلاده المنفي عنها، البعيدة ببعد الأغنية، حاملة إياه ليرقص، في مشهد وحيد سها فيه عن اكتئابه، إذ لا يكون السهو سوى برائحة البلاد، وإن كانت بأغنية عتيقة قلبت اكتئاب الرجل إلى ارتياح قصير الأجل.

التقابل بين الجزيرة التي «نفى» ذاته إليها للعلاج، والبلاد المنفي عنها لسبب مجهول، التقابل بين السيدتين: الأم في الذاكرة والسيدة في الواقع، التقابل بين العشب الأخضر والتراب الأحمر، بين الأبقار والخراف، أبقى، التقابلُ، منيرَ في حالته، في اكتئابه المحاصِر له في كل ما يعيشه، في تساؤله الدائم حول حياته والجدوى منها، حول معنى وجوده أساساً، مادياً ونفسياً في البعد، في المنفى. في الفيلم، نفيُ المنفى غير مجدٍ. جزيرة تشبه البلاد، الملاذ من مدينة هامبورغ، ليست، بنفيها، الجزيرة، للمدينة، ليست استعادةً للبلاد ولا خلاصاً من الاكتئاب. لا بديل عن البلاد هنا.
لم يدخلنا الفيلمُ في ما هو خلف ذلك، لا نعرف لمَ هو منفي، تجنّبُ المسألة السياسية في الفيلم تام، ما جعل حالة المنفى ناقصة، مجهولة، ما أخلّ بقدرة المنفي على التصارح مع ذاته. لا سؤال هنا عن سبب المنفى. واضح أن لا خيار شخصياً في ذلك. فكان محاذاة الإشارة السياسية من دون التقاطع معها، والإيغال في الترميز، ثقلاً سردياً في فيلم بُني على حالة النفي لشخصيته الرئيسية. لا أسئلة وجودية تكون تجريدية. لا تكون سوى منبعثة من واقع مادي، من ظروف موضوعية قاهرة، كي لا يكون المنفى، أخيراً، اختياراً امتيازياً، رفاهية طبقة متوسطة. فتاريخ الكتّاب والمثقفين العرب ممتلئ بالمنافي، والتاريخ السياسي والاجتماعي للعرب لا يجعل من المنفى رفاهيةً انتلجنسيّةً، بل هي اضطرار سياسي مقرون بطغاة تحكم بعيداً، في البلاد. التجريد يثقل على الترميز ويشوّش أبعاده.
يعود منير إلى مدينته، يعود إلى منفاه، في مَشاهد أخيرة تخللها الإكثار من الكلام المفقود على طول الفيلم. حالة صمت امتدت ليُقال أخيراً، على لسانه، ما لم تقله الصّور والتأملات، في إعادة توجيه قصديّة للحالة النفسية لمنير، التي احتاجت، سردياً، الاستقرار في تأملات الرجل، في انعزالاته، من دون التصريح بآلامه الواصلة أصلاً صوتاً وصورةً. احتاج الفيلم أخيراً إلى الإخلاص لاستمرارية التأمل، الشعور، الشعرية الممتدة على طول الفيلم، الإخلاص لحساسية التصوير، الإخلاص للتلميح في فيلم اعتمد التأمل والترميز، وذلك بدل التصريح الذي سمعناه مباشرة على لسان الروائي في المشاهد الأخيرة. فكما قال أخيراً، لا عينان له ولا أذنان ولا فم. عبارة لخّصت حالة المنفى التي نقلها الفيلم بحساسية القصيدة البصرية.

إعلان

  • سليم البيك – كاتب فلسطيني سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

+ -
.