«لا نريد العيش معاً»

قال السياسي: «لو كنت مكانك لكتبت في نهاية العام مقالاً صريحاً جارحاً خالياً من عطور اللغة ومناديلها. لم يعد يحق للكاتب الاختباء وراء التحفظ والاعتدال والخوف من المجاهرة. إن أمة بكاملها تندفع نحو كهوف التاريخ وتلعب بدم أبنائها وحقهم في الخبز والعمل والحرية. عليكم الاعتراف أن المنطقة الحالية هي غير المنطقة التي كنا نعيش فيها قبل حفنة أعوام. من العبث محاولة التحايل على الأمراض الجديدة بالقديم من العقاقير». استفزني الكلام فطلبت منه أن يجاهر.

قال: «لنتفق أولاً أن ما سمي «الربيع العربي» انتهى إلى فضيحة مجلجلة. كشف أن مجتمعاتنا ليست مؤهلة بعد للعيش في ظل أنظمة ديموقراطية تقوم على بناء المؤسسات وتداول السلطة واحترام القانون وحقوق الإنسان. سقط المستبد فسقطت معه وحدة البلاد التي بدت قسرية وانتعشت هويات متصادمة وولاءات تقل عن حجم الخريطة المعلقة في الدوائر الرسمية. انتقلنا سريعاً من الدول إلى الطوائف والمذاهب والعشائر والقبائل.

لنتفق أيضاً أن ما كنا نسميها القضية المركزية أي فلسطين لم تعد تحتل الموقع الأول لدى الناس ولم تعد تستولي على مشاعرهم أو المحرك الأول لسلوكهم. إن القضية المركزية في الإقليم هي النزاع السني – الشيعي. إذا تغاضيت عن هذه الحقيقة لا تستطيع فهم ما يجري في العراق وسورية ولبنان والبحرين واليمن وإن كانت لدى الأخير أسباب أخرى.

إعلان

إعلان

لنعترف أيضاً أن الشيعي المقيم في بناية في بيروت يشعر أنه أقرب إلى العلوي المقيم في طرطوس والشيعي المقيم في بغداد والبصرة منه إلى جاره السني في الشقة المجاورة. وأن السني في تلك الشقة يشعر أنه أقرب إلى السني في حلب أو الأنبار منه إلى جاره الشيعي الذي يعيش قربه منذ عقود. وهذا يعني عملياً سقوط حدود الدول وسقوط أغاني التعايش التي تغطينا بها طويلاً.

في موضوع سقوط الحدود والتعايش ندفع الآن ثمن برنامجين. البرنامج الإيراني الذي نجح في اجتذاب مجموعات من الشيعة العرب وإخراجهم من النسيج الوطني وجعل الولي الفقيه مرجعهم الديني والسياسي. وبرنامج «القاعدة» الذي يخرج المجموعات السنية المتعاطفة معه من نسيجها الوطني فهو لا يعترف أصلاً بحدود الدول ولا مكان عنده لفكرة التعايش أصلاً. تمثل سورية حالياً مسرحاً للصراع بين البرنامجين وهذا يكفي للقول إن سورية التي كنا نعرفها قبل ثلاث سنوات لم تعد واردة بصيغتها السابقة.

إنني أتساءل كيف سيتعايش السني والشيعي في العراق بعد قول رئيس الوزراء نوري المالكي إن المواجهة الحالية هي «استمرار للمواجهة بين أنصار الحسين وأنصار يزيد». وكيف سيتعايشون بعد هجمات انتحارية يشنها شبان من السنة على موكب عزاء شيعي. وكيف سيتعايش السني والعلوي في سورية بعد ما فعلته «داعش» و «النصرة» بمن وقع في أيديهما من العلويين وما فعله «شبيحة» النظام بأحياء سنية من دون أن ننسى «البراميل». وكيف سيتعايش السني والشيعي في لبنان بعد نهر الاغتيالات المستمر في التدفق وإذا كانت بيروت لم تعد تتسع لسعد الحريري وحسن نصرالله. إن الهتافات الغاضبة التي ترددت أمس في تشييع الوزير محمد شطح تشير إلى أن لبنان الذي كنا نعرفه لم يعد وارداً.

أنا العربي المسلم أشعر بالعار لما تعرض له المسيحيون في العراق وما يتعرضون له حالياً في سورية. في اضطهاد الأقليات وشطب وجودها إساءة غير مسبوقة إلى تسامح الإسلام وإلى العروبة التي كانت تتسع. تقلقني أكثر سذاجة المسيحيين اللبنانيين وعجزهم عن تجاوز انقساماتهم لحماية الحد الأدنى من فكرة الدولة وتوهم بعضهم أن تحالف الأقليات يحميهم من ظلم الأكثريات.

يخالجني شعور أن السنة الجديدة ستكون مثقلة بالمذابح والويلات وستعمق مشاعر الطلاق. سنة قاسية من بغداد إلى بيروت. ويخشى أن تكون مؤلمة أيضاً في مصر وأشد إيلاماً في ليبيا. حققت إسرائيل انتصاراً تاريخياً فاحشاً من دون أن تجازف بدم جندي واحد. كل السلاح المجاور لحدودها يسبح الآن في دم الحروب الأهلية».

استوقفتني خطورة القراءة وصراحتها. سألت السياسي ماذا كان سيضع العنوان لو كان مكاني فأجاب: «لا نريد العيش معاً. ستأكل النار مدننا وقرانا. سترتفع جثث أطفالنا كالأهرامات قبل أن نستنتج أننا ننتحر على قارعة العالم. ربما نلتقي بعدها كأعداء بلا أقنعة أو أكاذيب. وأن نرتب وقفاً لإطلاق النار بفعل التعب لا القناعة. إننا نعيش الآن في منطقة أخرى. ولقب نبيل العربي لم يعد صالحاً».

ما أخطر عبارة «لا نريد العيش معاً» حين تتردد في بغداد أو دمشق أو بيروت أو غيرها. ما أخطرها حين يقولها سياسي أفنى شبابه حالماً بالوحدة العربية.

+ -
.