ليبيا تعود حقاً إلى «ما قبل الدولة»

دخلت ليبيا مرحلة الفوضى التي توعد العقيد القذافي الليبيين الغرق فيها، حين حاول الصمود قبل مقتله في تشرين الأول (أكتوبر) 2011، أمام تقدم الثوار المدعومين جواً بقاذفات الناتو. وبعد ثلاث سنوات على انعتاقها، سقطت بنغازي، عاصمة الثورة الليبية، في أيدي الميليشيات المسلحة فيما يعلو دخان حريق خزانات الوقود سماء طرابلس ويسرع الأجانب ما أمكنهم إلى الفرار. وبذلك تعود ليبيا إلى وضع أسوأ من «عهد ما قبل الدولة»، بحسب وصف دبلوماسي أوروبي رفيع المستوى لـ «الحياة». وكانت ليبيا مقسمة إلى ثلاث مناطق وحّدها الاستعمار الإيطالي في 1911. وكل من هذه المناطق التاريخية قابل للتفتت وفق مصالح الميليشيات المسلحة.

وكشف انهيار دولة القذافي، بعد قرن من توحيدها بقرار المستعمر الإيطالي، افتقاد المعارضة قدرة البناء ومحدودية الدور الذي اضطلعت به الأمم المتحدة حيث انسحبت بعد دورة الانتخابات الأولى التي فازت فيها جماعات الإسلام السياسي والمجموعات الليبية المقاتلة التي حرمت قدرات ليبيا من البناء، من خلال قوانين الإقصاء. وتجد ليبيا نفسها اليوم فريسة مجموعات تتفاوت في درجات تشددها العقائدي وتتقاتل من أجل السيطرة على الموارد المالية ومخازن السلاح وحقول النفط والمعابر.

«الحياة» راجعت في شكل منتظم تغير المقاربات للأزمة الليبية مع عدد من كبار الديبلوماسيين في طرابلس وبروكسيل، بشرط عدم ذكر أسمائهم لأنهم غير مخولين الإدلاء بتصريحات صحافية أو للحفاظ على حرية التعليق، باستثناء المبعوث الأوروبي لدول الجنوب بيرناردينو ليون.

وذكر ديبلوماسي ليبي، عمل عقوداً في عهد العقيد القذافي، بأن «حكام ليبيا الحقيقيين هم خليط من الجماعات الليبية المقاتلة وأنصار الشريعة و «الإخوان المسلمين» و «القاعدة»، وأن حكومة السيد علي زيدان ومن خلفه لا تمتلك في الحقيقة أية سلطة، بل إن كل الذين توالوا على رئاسة الحكومة خضعوا لابتزاز الجماعات المسلحة والقبائل». وقد يصف البعض الاستنتاج بالمفرط أو بحنين الديبلوماسي لحكم العقيد القذافي الذي «حافظ أقله على كيان ليبيا الموحد». ويذكر الديبلوماسي الليبي أسماء 13 أو 14 مسؤولاً في مستوى وكيل وزارة ينتمون إلى جماعات «الإخوان» والمجموعات المقاتلة التي انصهر بعضها في حزب «الوطن» الذي أسسه المقاتل السابق في أفغانستان عبدالحكيم بلحاج «حتى أن الوزارات تشتري الأمن من خلال دفع مبالغ هائلة من الأموال للميليشيات في مقابل حمايتها ضد هجومات خصومها». هكذا، على سبيل المثل، اقتسمت المجموعات المسلحة النفوذ وسيطرت على ما تبقى من هياكل إدارية في البلاد. وبلغ الصراع أشده، بين الميليشيات المسلحة، وكل منها يستند إلى قبيلة أو فصيل «إخواني» أو ديني متشدد، في ما يشبه معركة كسر عظم من أجل السيطرة على مطار طرابلس الدولي الذي يمثل أحد المعابر الرئيسية ونقطة التواصل مع الخارج.

وتدور المعارك بين مقاتلي قبيلة «الزنتان» التي تعد من أكبر القبائل في البلاد وبين الميليشيات الإسلامية، سواء في طرابلس أو مصراتة. وتذكر تقديرات أولية أن الخسائر المادية تفوق بليوني دولار هي قيمة الطائرات وتجهيزات الملاحة التي تم تدميرها. وتدمير المطار جزء بسيط من كارثة استهداف مخازن الوقود وشبكات الكهرباء وإمدادات الماء. ولا يستبعد المبعوث الأوروبي بيرناردينو ليون أن تكون المعارك المتواصلة في محيط مطار طرابلس تهدف إلى «الاستيلاء على رمز وطني تتداخل فيه عناصر السيطرة وتوسع النفوذ». ويعتبر بيرناردينو ليون من الديبلوماسيين الذين ترددوا كثيراً على ليبيا من أجل تشجيع الحوار بين الفرقاء. ويلاحظ أن «الحكومة الليبية لا تمتلك مؤسسات وتفتقد قوات الأمن والجيش. لذلك، تجد نفسها أحياناً مضطرة للتفاوض مع الميليشيات مثلما حدث خلال احتلال الميليشيات المنشآت النفطية وموانئ التصدير»، إضافة إلى «تعدد أجهزة السيطرة على الميليشيات والمجموعات الجهادية. وتكاد سلطة الدولة تكون منعدمة في مناطق مثل درنا حيث تمت تصفية ممثلي الدولة».

وعندما تفتقد الدولة احتكار القوة تتلاشى مؤسساتها وتحل محلها الميليشيات والعصابات المسلحة، وهو ما يحدث في أكثر من منطقة. ويقود الفراغ السائد إلى تفكك البلاد. وعبثا حاولت حكومات ليبيا ما بعد الثورة التعاون مع ميليشيات الثوار الذين تضاعفت أعدادهم بعشرات الآلاف منذ سقوط النظام. فالبعض يقدر هؤلاء الثوار بحوالى عشرين ألفاً في الأشهر التي سبقت سقوط العقيد معمر القذافي في 2011. وبدلاً من تقلص عدد المسلحين بعد سقوط النظام، فإن أعدادهم تفوق 50 ألفاً اليوم موزعين بين عشرات المجموعات المسلحة الدينية والقبلية وعصابات قطاع الطرق والجريمة المنظمة.

وكل مهمة أمنية تبدو معقدة بسبب انتشار السلاح، إلى درجة أصبح كل بيت يضم اثنتين أو ثلاثاً من قطع السلاح. ويتحدث بعض الآباء عن فقدانهم السلطة في البيت لأن المراهقين مسلحون. وتروي سيدة ليبية أنها «أصبحت تخاف من أبنائها الثلاثة لأن لكل منهم بندقية كلاشنيكوف». فلا تتجرأ على تنبيه أي منهم بواجب الذهاب إلى الكلية. وأكثر من ذلك، فإن مراهقين يتخلفون عن مقاعد الدراسة ويلتحقون بالميليشيات حيث يحصل المراهق على راتب قد يصل إلى 1000 دولار في الشهر.

وحاولت دول أوروبية تربطها علاقات تاريخية بليبيا (إيطاليا، بريطانيا، الولايات المتحدة، تركيا) مساعدة الحكومات الليبية من خلال تدريب عدد من الضباط والجنود في مجالات من بينها كيفية خضوع القوات المسلحة للسلطة السياسية، لكن النتائج كانت مخيبة للغاية.

وأكد ديبلوماسيان، ليبي وأوروبي، لـ «الحياة» أن «عدداً من الجنود الذين تم تدريبهم في الخارج ظلَّ، بعد عودته، يأتمر بأوامر قادة الميلشيات ولا يخضع لقيادة الثكنة». وقدم رئيس الوزراء الأسبق علي زيدان طلباً رسمياً إلى حلف شمال الأطلسي في منتصف 2013 من أجل المساعدة في بناء هيئة أركان عسكرية ووزارة للدفاع. وزار وفد من خبراء الناتو ليبيا مرتين من أجل تحديد أولويات خطة التعاون، لكن الخطة لم تتجاوز مستوى التشاور. ووافق الاتحاد الأوروبي في منتصف 2013 على إرسال خبراء في الشؤون الأمنية لتدريب الكفاءات الليبية على حماية الحدود. لكن تاثير المهمة كان محدوداً للغاية نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية، حتى أن الخبراء الأوروبيين أنفسهم اضطروا للانسحاب إلى مالطا في آذار (مارس) الماضي قبل أن يعود نفرٌ قليل منهم. بل إن شحنة من الأسلحة التي استوردتها مؤسسة حماية الخبراء الأوروبيين اختفت في مطار طرابلس. وأكثر من ذلك، فإن «غرفة الثوار» التي اختطفت رئيس الوزراء علي زيدان من فندق «كورنثيا» سلبت الطاقم الأوروبي سترات مضادة للرصاص وهواتف تعمل من طريق الأقمار الاصطناعية، وكان الخبراء الأوروبيون يقطنون في الفندق نفسه حيث يسكن رئيس الحكومة السابق.

وتحولت ليبيا إلى ميدان لكل عمل ميليشياوي أو خارج عن القانون. فيتحرك فيها مقاتلو «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» بحرية ويتزودون بالسلاح. كما يتدرب الآلاف من منتسبي «أنصار الشريعة» التونسيين والجزائريين وبعض الأوروبيين قبل الرحيل إلى مصر، خصوصاً إلى سورية من طريق تركيا أو شمال لبنان، حيث ينخرطون في صفوف «جبهة النصرة» أو «داعش». ويعود بعضهم إلى تونس والجزائر لشن عمليات ضد أجهزة الأمن والقوات المسلحة.

وكان رئيس المجلس التنفيذي الانتقالي الليبي الدكتور محمود جبريل أوجز في سلسلة حوارات نشرتها «الحياة»، أن بلاده «أصبحت تمثل خطراً على نفسها وعلى جيرانها». وها هي اليوم مقسمة بين ميليشيات متحاربة. وأمام تدهور الوضع الأمني لم تجد الدول الغربية التي هبت في 2011 لحماية الشعب الليبي من القذافي «الطاغية» سوى سحب بعثاتها الديبلوماسية بحراً أو براً من طريق تونس، تاركة ليبيا تغرق في الفوضى.

ويلتفت الليبيون من جديد في اتجاه الأمم المتحدة من أجل أن تنخرط في شكل مباشر في مسار إعادة بناء مؤسسات دولتهم. ورأى المبعوثون من دول الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والولايات المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي في اجتماع عقدوه في 24 تموز (يوليو) 2014 في بروكسيل «الحاجة العاجلة إلى وقف إطلاق النار» بين الأطراف المتحاربة، وأن «تظهر رغبتها في البحث عن حلول وسط». وأشار المبعوث الأوروبي لدول الجنوب بيرناردينو ليون إلى «وجوب أن يطلق البرلمان الجديد مساراً شاملاً يستند فيه إلى المعتدلين من الجانبين من أجل أن يلتقوا في وسط المشهد السياسي مثلما حصل في تونس. وانطلاقاً من الوسط يمكن التدرج نحو بناء حيز سياسي يمكن ليبيا من خوض المرحلة الانتقالية».

لكن الحكومة التي سيشكلها البرلمان ستحتاج قبل كل شيء إلى قوة ردع أمنية وعسكرية تمتلك قدرات نزع أسلحة الميليشيات. وبما أن ليبيا لا تمتلك هذه القوة فإن، المسؤولية ستقع على المجموعة الدولية. وكلما تأخرت هذه عن التدخل العسكري، انزلقت ليبيا أكثر فأكثر في مسار الصوملة.

+ -
.