غاب الروائي التركي الكبير ياشار كمال وفي قلبه حسرتان، حسرة القضية الكردية التي كان يعدّها «قضية تركيا الديموقراطية»، وحسرة جائزة نوبل التي رُشِّح إليها مرات ولم يفُز بها فذهبت إلى أورهان باموق الذي يعترف دوماً بأبوة كمال وتأثّره به. توفي كمال عن اثنين وتسعين عاماً في إسطنبول، المدينة التي مثلت محطته التاريخية الثالثة بعد أنقرة وأضنة التي شهدت ولادته الأدبية الحقيقية. وهو كان غاب عن المعترك الثقافي التركي والعالمي منذ أعوام جراء معاناته المرضية الطويلة، ولم يكسر هذه العزلة إلا في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عندما احتفت به جامعة «بيلك» في إسطنبول مانحة إياه دكتوراه فخرية «تقديراً لمساره الروائي الفريد»، لكنه لم يتمكن من الحضور فكتب رسالة تليت في الاحتفال وكانت بمثابة وصية أخيرة له دعا فيها الى «معاداة الحرب» ومواجهة «السلطات التي تسحق الإنسان».
كان ياشار كمال الذي ولد في قرية «حميدة» جنوب شرقي تركيا عام 1923 يدعى كمال صادق جوكجلي واسم العائلة هذا يعني «الأزرق السماوي»، لكنه ما لبث عندما احترف الكتابة، أن اختار الاسم الذي عرف به والذي يعني «كمال يعيش». عثماني كردي تركماني، قضى طفولته وصباه في منطقة الأناضول التي تسمى «الوادي الخفيض» وعاش حياة أهلها الفلاحين والمزارعين ونشأ بين جبالها وسهولها واستمع الى رواتها يسردون الملاحم والأساطير التركية والكردية، وعرف عن كثب مغامرات قطّاع الطرق والمهرّبين والفارّين وملأ عالمه الروائي بهم، لا سيما روايته الشهيرة «محمد النحيل» (انجه مهمد) التي أضحت في أجزائها الأربعة ملحمة الأدب التركي الحديث. لم يتمكن كمال من الدراسة وتحصيل العلوم في حياته الريفية، وهو عمل أصلاً في الزراعة مثله مثل أهله، لكنه انصرف إلى القراءة مثقفاً نفسه بنفسه حتى بات يمتلك أصول الكتابة الأدبية. في هذا الصدد كان كمال عصامياً وساعدته هذه العصامية على فرض اسمه منذ أن انتقل الى أنقرة وإلى إسطنبول من ثم ليعمل في الصحافة ويباشر حياته الأدبية قاصّاً وكاتب مقالات وريبورتاجات ومناضلاً سياسياً ملتزماً واشتراكياً، ولكن على طريقته. وقاده نضاله السياسي إلى السجن عام 1950 والتعذيب والملاحقة، لا سيما بعد اتهامه بالشيوعية. وحمله النضال على الالتحاق عام 1962 بـ «حزب العمال» التركي الذي أنشئ بعد اعلان الدستور في 1962 وكان له موقعه في الحزب وفي «معركة» الإصلاح والتغيير التي قادها. ظل اسم ياشار كمال مدرجاً على لائحة المعارضين أعواماً، وكانت أجهزة السلطة الحاكمة تمارس عليه الرقابة وتطارده، حتى أنه اضطر مرة الى السفر الى السويد هرباً من الاضطهاد الذي لحق به جراء مقالاته النقدية الجريئة ومواقفه، لا سيما في ما يتعلق بقضية الأكراد والمجازر الأرمنية. ولم يكن مفاجئاً أن تمنحه وزارة الثقافة في أرمينيا أمس بُعيد رحيله، ميدالية غريغوار ناريغاتسي الراقية تقديراً لأدبه ونضاله السياسي.
كان ياشار كمال أبا اللغة التركية الحديثة، سعى في رواياته وقصصه الغزيرة الى تجديد هذه اللغة وصهرها والارتقاء بها الى مصاف الإبداع الجمالي، وأمدّها بمفردات وتعابير نابعة من صميم المخيّلة الشعبية والتراث القديم. لكنه ظل أميناً لجذوره الكردية التي لم تفارق وجدانه، وقد فاجأت روايته «أسطورة جبل نكري» (1970) الأوساط التركية، فهي تدور في كردستان وتجسد أحلام الشعب الكردي المضطهد.