لم يقصّر المشهد الأدبي العربي، لا سيما الجزائري، بحكم النسب المباشر، في حق الروائية آسيا جبار التي رحلت مساء الجمعة الفائت، بعدم وقوفه إلى جانبها في معركة نوبل فقط، والتي رشحت لها أكثر من دورة، ولم تحظ بها لأسباب ظهر أنها سياسية، كما ورد في مذكرات جونر جان المدير السابق للجائزة، بل بعدم ترجمة متونها إلى اللغة العربية أيضاً.
من المثير للدهشة أن تخلو المكتبة العربية من روايات جبار وبحوثها، إن لم يكن في إطار المسار الطبيعي للترجمة، مثلما حدث مع مجايليها من الكتاب الجزائريين الذين كتبوا باللغة الفرنسية، مثل محمد ديب ومالك حداد وكاتب ياسين، فمن باب مواكبة محطات كبيرة في مسار هذه الكاتبة التي نافست كتّاباً عالميين على نوبل، من هذه المحطات ترشيحها ذاته لهذه الجائزة، ولكونها العربية الأولى التي حصلت على جائزة السلام في ألمانيا، وفازت بعضوية الأكاديمية الفرنسية عام 2005.
هنا قد يبرر بعضهم هذا الغياب – التغييب لمتون صاحبة «الجزائر البيضاء» عن اللغة العربية، بكونها قصّرت هي نفسها في التواصل مع الفضاء العربي، ميلاً وتفضيلاً منها للفضاء الفرانكفوني. لكن هذا المبرر لا يصمد أمام واقع ترجمة كتاب فرانكفونيين وفرنسيين، لم يولوا اهتماماً بالقارئ العربي، لا من حيث نشاطهم الإعلامي، ولا من حيث طبيعة متونهم. هنا لا بد من التذكير بأن صداقاتٍ عميقة جمعت الكاتبة، بأقلام مشرقية، منهم نور الدين الأنصاري الذي قالت إنه ساعدها على الاقتراب من المصادر التي ساعدتها على تأثيث روايتها «بعيداً عن المدينة»، والتي تبدأ بوفاة الرسول.
هذا الفراغ جعل قطاعاً واسعاً من الكتاب الجزائريين المعربين، يركزون في شهاداتهم التي طلبها منهم الإعلام إثر رحيل الكاتبة، على مسارها لا على إبداعها، وهي فجوة غير مبررة كشفها الموت، ما يثير لدينا الانتباه – المساءلة، أكثر مما يثيرنا ما اعتبره الروائي إسماعيل يبرير في لمحة ذكية «اللهث وراء صداقة الموتى»، من غير الإلمام بأرصدتهم.
في هذا المقام يصبح سؤال جدوى ترجمة جبار إلى اللغة العربية مبرراً، وهنا تطرح نخبة من المبررات نفسها. فإضافة إلى الدواعي الجمالية التي هي جوهر العملية الإبداعية، هناك قدرة متون جبار على إعطائنا صورة نزيهة عن المرأة الجزائرية، وهي تخوض معركة التحرير زمن الاستعمار، ورهان التحرر زمن الاستقلال. صورة لم تضبطها نزعة فضائحية، نجدها عند بعض الكاتبات المتبنيات لخطاب الحركة النسوية، بما هو ثمرة لسياق غربي مغاير، من حيث شروط تشكله، أو تضبطها نزعة استشراقية إكزوتيكية، في إطار ما يُسمى سحر الشرق.
كانت المرة الوحيدة التي تشابك فيها القارئ العربي، مع هذه الصورة للمرأة الجزائرية، ومنها المغاربية، لدى صاحبة كتاب «نساء الجزائر»، من خلال ترجمة روايتها «القلقون»، في السنوات الأولى التي تلت الاستقلال الوطني عام 1962. وكانت المرة الأخيرة أيضاً، في حدود ما أعلم، إذا استثنينا مفاصل قصيرة من متونها، وبعض الترجمات التي لم ترَ النور بعد، منها ترجمة الروائي الجزائري حبيب السايح روايتها «بعيداً عن المدينة»، أو ما وصفته هي نفسها بمجموعة مشاهد وسرود ورؤى.
في رواية «القلقون» التي نشرت أصلاً بالفرنسية عام 1958، تنكأ جبار قلقاً، كان إلى غاية تلك العتبة الزمنية مسكوتاً عنه، في شارع جزائري، مرّ على احتكاكه بالفرنسيين قرن وثلاثة عقود. هذا التابو هو زواج الجزائريين بالأجنبيات، وما ينجم عنه من تعسفاتٍ يمليها تمايز الطرفين، من حيث اللغة والمعتقد والعادات والطقوس، في مجتمع عربي وأمازيغي يخوض أصلاً ثورة للتحرّر من سيطرة هذا الآخر، على ثرواته وملامحه الثقافية.
هذا التوازن في هذه الصورة، أملاها وفاء الكاتبة لروح بيئتها التي طلعت منها، منطقة جبل شنوة غرب الجزائر العاصمة، حيث تتناغم الثقافتان العربية والأمازيغية، إلى جانب الخلفية المعرفية العميقة للكاتبة باعتبارها أكاديمية، فهي أول أستاذة جامعية جزائرية، وقد استندت إلى هذه الخلفية، في مقاربتها للمدونة الاستشراقية، من جهة تعاطيها مع المرأة الجزائرية، منها تجربة الفنان التشكيلي فرديناند فيكتور أوجين ديلاكروا.
لطالما تعامل المشهد الأدبي في المشرق العربي، مع الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية، انطلاقاً من حكم جاهز هو أن هذا الأدب خائن لملامحه الوطنية، ومنساق للمقولات الاستشراقية عن الشرق الحضاري. حكم عزّزه الجهل التام أحياناً، بمتون هذا الأدب الذي لا يخلو طبعاً من وجوه لا تستطيع أن تنكر تلك التهم، أو تنكر كونها استفادت من تواطئها مع اشتراطات بعض دور النشر الفرنسية، كما عززته ثقة هذا المشرق العربي، في نخبة من الكتاب الجزائريين المعربين، والذين عادة ما يتناولون هذا الأدب، من منطلق أيديولوجي ضيق، لا من منطلق ثقافي وجمالي.
غير أن اللوم ينصبّ أكثر ما ينصبّ على المؤسسات الجامعية والإعلامية والثقافية الجزائرية، والتي لا تزال خاضعة للنظرة السياسية الحكومية، إلى النخب المثقفة المعارضة للمقولات الرسمية، وهي نظرة تشيطن هؤلاء، وترميهم بالخيانة، تكريساً للواقع القائم على اعتبار أن الوطن هم حاكموه.
لقد تعاملت هذه المؤسسات الرسمية مع رحيل محمد ديب عام 2003 ومحمد أركون عام 2010 مثلاً، من باب «الأذين» في المنابر المكتوبة، والخبر الثانوي في المنابر السمعية والبصرية، فجرعة الاهتمام تمليها جرعة الولاء لا العطاء، وهذا ما حصل مرة أخرى مع آسيا جبار التي ارتـبـطت بـوطن لا بـالنظام فأهملتها منابره.