ليس من السهل مقاربة «ثلاثية» الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي مقاربة نقدية أكاديمية بعد ما أحاط بها، انطلاقا من روايتها الأولى «ذاكرة جسد»، من إشاعات وتهم روّجها الإعلام وكاد أن يسبغها عليها. ومازال الكثيرون يتداولون على سبيل المثل التهمة التي جعلت نزار قباني هو كاتب «ذاكرة الجسد» او التهمة الأخرى ومفادها بأن سعدي يوسف هو من عاود كتابتها… كل هذه الشائعات الملتبسة التي نُسجت حول الرواية وصاحبتها، تخطتها الناقدة منى الشرافي تيّم ووضعتها جانباً في بحثها الأكاديمي «الجسد في مرايا الذاكرة: الفن الروائي في ثلاثية احلام مستغانمي» (دار ضفاف – بيروت، مكتبة كل شيء – فلسطين، دار الأمان -الرباط) وانصرفت الى قراءة «الثلاثية» كنصوص بذاتها، تحليلاً وتشريحاً واستكناهاً لأبعادها كافة، بغية تبيان حقيقة هذه التجربة الروائية وحجمها، وتقويمها على ضوء النقد المنهجي. ولعل النتائج التي خرجت بها هي من اهمّ ما يمكن ان تخرج به دراسة تتناول ظاهرة روائية هي الأكثر شعبية وانتشاراً، لا سيما على مستوى «التناص» الذي سعت الروائية الى ان تواريه أو تخفيه عن اعين قرائها. و»التناص» يعني من ضمن ما يعني السرقة الأدبية كما كان يقول النقد العربي قديماً، عطفاً على ما يضمر من معاودة انتاج الروائي لنفسه حتى التكرار احياناً. وكشفت الناقدة تيّم ان هذا التناص ينسحب على روايات «الثلاثية» نفسها وليس فقط على اعمال روائيين آخرين اتكأت مستغانمي عليها.
حوافز «الثلاثية»
كان لا بد للناقدة ان تنطلق باحثةً عن الأسباب التي دفعت الروائية الى كتابة جزء ثان وثالث لروايتها «ذاكرة الجسد» التي عرفت نجاحاً شعبياً (وليس نقدياً)، مركّزةً على حوافزها الظاهرة والخفية، وعلى مدى إفادتها من «التناص»، وكيفية بنائها «الثلاثية» وعلاقة الأجزاء الثلاثة بعضها ببعض وتطور هذه الأجزاء على مستويات عدة: الموضوع، الحدث، الشخصيات والبناء الروائي… وغاصت الناقدة في الأبعاد التي يفترض ان تحملها الثلاثية، إنسانياً ونفسياً وإجتماعياً وسياسياً، لتكشف مدى انفتاح الروائية على آفاق الحداثة الروائية والعلوم الإنسانية التي تشكل احد المرتكزات الرئيسة للحداثة. ولم تغفل الباحثة التنوّع الذي اعتمدته الروائية في اختيار رواة اعمالها الثلاثة بين الذكورة والأنوثة: ماذا يعني ان يكون الرواي هنا ذكراً وهناك انثى؟ ولعل بحثها في التقنيات السردية والأساليب التي اعتمدتها مستغانمي في بناء ثلاثيتها كان احد الدعائم التي اعتمدتها لاستخلاص ما استخلصته بجرأة وموضوعية، من خصائص ايجابية (قليلة) وسلبية تقع في صلب «الثلاثية». وبدت الناقدة في بحثها هذا دقيقة كل الدقة، لا تطلق الأحكام جزافاً، بل هي ترسخها انطلاقاً من الشواهد، معتمدة اكثر من منهج وفق ما تفترض المقاربة الأكاديمية، كالمقارنة والمقابلة والإحصاء والتحليل السوسيولوجي والنفسي والنقد الأسلوبي والبنائي.
اما الخلاصات التي انتهت اليها تيّم بعد دراستها المستفيضة والمتأنية (أكثر من 400 صفحة) لـ «الثلاثية»، فهي اشبه بالمرتكزات الثابتة التي تضع الروايات الثلاث على المحك النقدي وتحت الضوء المجهري الذي يعرّي عالم مستغانمي بحسناته ومثالبه وهنّاته في آن واحد. وفي شأن التناص ترى الناقدة ان مستغانمي استفاضت واسترسلت في الإفادة من هذه الظاهرة على مستويات عدة. فهي اولاً عاودت انتاج رواية «ذاكرة الجسد» في الروايتين اللتين اعقبتاها وهما «فوضى الحواس» و «عابر سرير»، وكأنها – برأيي الشخصي هنا – سعت الى اغراء قرائها الكثر وإيقاعهم في شركها. ولجأت مستغانمي الى خلط نصوصها بعضها ببعض، متكئة على ابطال سابقين وبعض الوقائع السابقة، ولكن من غير ان تموّه فعل التناص هذا او تركّز التفاعل النصّي بين الروايات، فاختلطت الأصوات وتاهت بين الروايات الثلاث ووقعت في حال من الفوضى والتشرذم. وبدا واضحاً انّ مستغانمي راحت تقلّد، بل تستنسخ نفسها في الروايتين اللاحقتين، فهي لم تستطع تقديم جديد في الأحداث ام في الحبكة.
«التناص» المعلن
اما التناص مع نصوص اخرى فلم تتمكن مستغانمي من اخفائه او توريته ففضحت نفسها وفي ظنها ان قراءها الشعبيين (والعاطفيين) لم يقرأوا الكتب التي اتكأت عليها وأخذت منها. وأولى الروايات التي «تناصصتها» هي «رصيف الأزهار» للكاتب الجزائري مالك حداد. يرد اسم هذا الكاتب مرات عدة في «ذاكرة جسد» وترد ايضا اسماء رواياته في «الثلاثية» كثيراً، عطفاً على ان مستغانمي سمّت بطلها الرئيس على اسم بطل رواية حداد وهو خالد بن طوبال وأنها حاولت استغلال شهرة بطل مالك حداد وشهرته هو نفسه بصفته واحداً من الروائيين الرواد الكبار. وبرزت حال من التداخل بين فضاء السرد في «الثلاثية» وفضاء «رصيف الأزهار» وكذلك على مستوى الزمن والشخصيات. ورصدت الناقدة وجود «تناص» بين رواية «ذاكرة الجسد» ورواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائي السوري حيدر حيدر من جهة، ورواية مالك حداد التي شكلت النص الثالث الذي تقاطع خلاله نص مستغانمي ونص حيدر من ناحية المضمون والفكر والمنحى… وتكشف الناقدة «تناصاً» آخر بين «ذاكرة الجسد» ورواية الكاتب البريطاني غراهام غرين «حفلة القنبلة» في موضوعات عدة وتقنيات، وبدت مستغانمي كأنها استلهمت الفكرة العريضة للرواية منها، وراحت تبني انطلاقاً منها. ومما كشفته تيّم ايضاً «تناصاً» بين «عابر سرير» ورواية الكاتب الجزائري الكبير كاتب ياسين «توأما نجمة» من خلال سيرة الفنان الجزائري محمد اسياخم. اما «التناص» اللافت فهو مع اشعار نزار قباني وهو «تناص» واسع الأفق وتبدّى عبر الجمل والعبارات التي استقتها الروائية من الشاعر الذي كتب كلمة عن «ذاكرة جسد» كانت احد اسباب رواجها الكبير ومنطلق تهم وثرثرات.
لم تدع الناقدة منى الشرافي تيّم قضية أو موضوعة او ظاهرة لم تتناولها في دراستها الأكاديمية هذه. سلطت الضوء على الإيجابيات وعلى السلبيات او المآخذ التي سجلتها على «الثلاثية» في نواحٍ عدة. وفي ما يخص الأبعاد الإنسانية والنفسية والاجتماعية التي تحفل بها الثلاثية تناولت تيّم قضايا عدة ومنها: صورة الجسد، صورة الأنثى، صورة الذكر، الذاكرة، الحب، الخيانة، نقد المجتمع والسياسة، الحياة، الموت. وفي حقل البناء الروائي تناولت: السرد، الحدث، الحوار، الشخصيات، المكان. وتوقفت الناقدة طويلاً عند الظاهرة اللغوية والبلاغية في «الثلاثية». ومن الخلاصات التي استنتجتها في حقول النقد هذه أن روايات مستغانمي لا تخرج عن كونها لعبة لغوية وتقنية، وهذا رأي سديد حقاً، وقد «حظيت اللغة باهتمام مستغانمي فاحتلّت الصدارة وطغت على عناصر الرواية فأدّت اللغة في الروايات الثلاث كل الأدوار». وعمدت الروائية الى «استخدام التكرار بشدة فكرّرت العبارات نفسها والكلمات نفسها وكذلك الأفكار والمعاني نفسها، على ان هذا التكرار لم يأت في شكل جديد أو من خلال تراكيب أو معانٍ جديدة». وفي رأيها المصيب نقدياً ان التكرار بدا وكأنه «حشو لغوي مفرط غايته التعبئة وزيادة عدد الصفحات». ومن ملاحظاتها حول البناء انّ الثلاثية «لم تحتوِ على حبكة روائية فعلية تشتد باشتداد الصراع ما بين البطل ومحيطه وظروفه، لأن الأحداث فيها لم تتجاوز كونها سلسلة من اللحظات المتناثرة».
كل هذه الخلاصات النقديّة بنتها الناقدة على شواهد كثيرة اتت بها من متون «الثلاثية» وأوردتها بوضوح ودقّة في دراستها الأكاديمية الرصينة. ولم تطلق اي حكم من دون ان ترفقه بما يؤكده ويثبته. واللافت ان تيم كتبت دراستها وكأنها نص ادبي يجد القارئ فيه الكثيرة من المتعة، مبتعدة عن الجفاف على رغم موضوعيتها وعلميتها في كون الدراسة هذه، أطروحة نالت لها درجة الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث من جامعة بيروت العربية.