المرصد – المركز العربيّ لحقوق الإنسان في الجولان
تصادف هذه الأيام، الذكرى الأربعون لإصدار حكومة الاحتلال الاسرائيليّة قرار ضمّ الجولان السوري المحتلّ (لاحقاً الجولان) وتطبيق القوانين المدنيّة عليه، في الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر لعام 1981، بعد 14عاماً من إخضاعه للحكم العسكريّ عقب احتلاله عام 1967.
آنذاك، ومع توصّل مصر وإسرائيل إلى اتّفاق سلام وإعادة شبه جزيرة سيناء لمصر أواخر السبعينات، بدأت قوى اليمين الإسرائيليّ، التي وصلت للحكم في تلك الفترة، بالدفع لعرقلة إمكانيّة إعادة المزيد من الأراضي العربيّة المحتلّة. في هذا السياق تمّ سنّ “قانون ضمّ هضبة الجولان”، وفرض القانون المدنيّ الإسرائيليّ على سوريّي الجولان. أدّى ذلك القرار، الذي هزّ وجدان سكّان الجولان، إلى انبثاق حركة مقاومة شعبيّة سلميّة، أو ما اصطُلح على تسميته فيما بعد بانتفاضة الهويّة.
لقد بنت إسرائيل سياسة الضمّ، من بين أمور عدّة، على ظاهر الصورة فقط، في ما يتعلق بالسلوك السياسيّ لسكّان القرى الخمس المتبقيّة، خلال العقد الأول من الاحتلال – من أصل 340 قرية ومزرعة تمّ تهجيرها-. فقد تمكّن الحكم العسكريّ لجيش الاحتلال، خلال هذا العقد، من ترهيب السكّان المتبقّين عبر القمع وتقييد الحريّات واعتقال مجموعات من الشباب كانت قد نشطت في النضال السريّ، وإخضاع جهاز التعليم للسيطرة الإسرائيليّة المطلقة، ودمج قوى العمل في السوق الإسرائيليّة، وبناء آليّة حكم من خلال استمالة الأعيان المحليّين لضمان التبعيّة السياسيّة، وتعزيز الهويّة الطائفيّة في إطار الولاء لإسرائيل، من خلال جهاز التعليم. كان من نتائج هذه السياسة نشوء صورة إعلاميّة رسميّة وانطباعات قويّة لدى الرأي العامّ الإسرائيليّ، تشير إلى قبول السكّان السوريّين بإسرائيل، وبوضعيّة المواطنة فيها. إلاّ أنّه مع بداية تطبيق سياسة الضمّ وفرض الجنسيّة، وُضعت هذه الصورة موضع الاختبار العمليّ، فتصدّعت تماماً، وتحوّل المشهد إلى مشهد انبثاق تعبيرات شعبيّة قويّة عن الهويّة الوطنيّة ولحمة الأهالي ضدَّ سياسات الضمّ والتدجين والدمج الإسرائيليّة. وتجسَّد التعبير الأقوى لهذه الروح الوطنيّة بإصدار “الوثيقة الوطنيّة”؛ التي أعلنت مقاطعة اجتماعيّة ودينيّة تامّة لكلّ من يقبل بالمواطنة الإسرائيليّة، وبإعلان الإضراب المفتوح في 14 شباط 1982؛ الذي دام عدّة أشهر، وأفضى إلى تراجع سلطة الاحتلال عن محاولة فرض الجنسيّة الإسرائيليّة بالقوّة. ولكن تمّ تمرير الضمّ الفعليّ والقانونيّ، وأُجبر الأهالي على القبول بمكانة “المقيم في إسرائيل” مع وثائق سفر تُعْطى لمن ليس لهم دولة – كما هي حال فلسطينيي القدس الشرقيّة – وجنسيّة “غير معرّفة – “Undefined” في بطاقات الهويّة.
في المقابل، كان النشطاء الوطنيّون قد طالبوا، دون جدوى، بهويّة مميّزة تدلّ على وضعهم تحت الاحتلال بموجب القانون الدوليّ. منذ تلك اللحظة ستدخل إشكاليّة الهويّة السياسيّة، وتعريفاتها وتعبيراتها، في ثمانينات القرن الماضي، حيّز الثقافة العامّ، الآخذ بالتكوُّن، بعد أن خسرت المعركة القانونيّة المباشرة.
لقد درج الجولانيون، في هذا اليوم من كلّ عام، على استذكار هذه الواقعة وما رافقها من أحداث وقصص ما تزال حيّة في ذاكرة من عايشوها. الّا أنّ السنين الطويلة التي انقضت بالعيش تحت شرط الاحتلال فعلت فعلها، وأحدثت تحوّلات عميقة، طال تأثيرها كلّ مناحي الحياة، الأمر الذي يستوجب استذكاراً يتعدّى استرجاع الحدث إلى مراجعة نقديّة تقف على الثابت والمتحوّل، في السيرورات التي أعقبت قرار الضمّ وانتفاضة الهويّة، على مدى أربعة عقود كاملة.
يتمثّل الثابت الأساسيّ في أنّ الوضعيّة القانونيّة للجولان، في القانون والعرف الدولييّن؛ بوصفه إقليماً سوريّأً خاضعاً للاحتلال، لم تتغيّر. فطبقاً لقرار مجلس الأمن رقم 497، يُعتبر قرار إسرائيل بفرض قوانينها وسلطاتها وإدارتها في مرتفعات الجولان السوريّة المحتلّة ملغيّاً وباطلاً ومن دون فعّالية قانونيّة على الصعيد الدوليّ؛ كما يطلب من إسرائيل، بوصفها القوّة المحتلّة، أن تلغي قرارها فوراً؛ ويعلن أنّ جميع أحكام اتفاقيّة جنيف المعقودة بتاريخ 12 آب/أغسطس 1949 والمتعلّقة بحماية المدنيّين وقت الحرب ما زالت سارية المفعول على الأراضي السوريّة التي تحتلّها إسرائيل منذ حزيران/يونيو 1967. وباستثناء إعلان الرئيس الأمريكيّ الأسبق دونالد ترامب، اعترافه بسيادة دولة الاحتلال على الأراضي السوريّة المحتلّة، فإنّ المجتمع الدوليّ ما زال ملتزماً بقرارات الأمم المتّحدة حيال الوضعيّة القانونيّة للهضبة السوريّة.
خلال العقدين الأخيرين، بشكل خاصّ، تعاظمت تحوّلات بنيويّة عامّة داخل المجتمع الجولانيّ؛ تتّصل بالاندماج في المنظومة الاقتصاديّة الاستعماريّة وارتباط شبكات المصالح الفرديّة والجمعيّة بها، واتساع نطاق تطبيقات القوانين المدنيّة، إلى درجة تلاشي الفروقات بين الجولان، كمنطقة محتلّة، وبين باقي المناطق الواقعة ضمن دولة الاحتلال، وتعزيز صلاحيّات السلطات المحليّة التي تجاوزت مجال الخدمات والبنى التحتيّة إلى محاولة الاستحواذ على التمثيل السياسيّ لعموم أهالي الجولان، في ظل تراجع الخطاب الوطنيّ وتقدّم الخطاب الهويّاتيّ الطائفيّ، وتحوّلات أخرى يمكن التفكير فيها.
وبدون التقليل من تأثير التحوّلات المذكورة، يظلّ المتغيّر الأساسي والأشدّ تأثيراً هو الأحداث التي عصفت بسوريا خلال العقد الأخير، وانعكاساتها على المجتمع المحليّ في الجولان المحتل والمخاوف المتعاظمة حيال إمكانيّة تفكُّك الكيان السياسيّ للدولة السوريّة، أو أجزاء منه. في نفس الوقت، ما يزال الغائب الدائم من الخطاب العامّ المتعلّق بالجولان ومصائره المحتملة، يتمثّل بسكّانه الأصليّين، الذين تمّ تهجيرهم عشيّة احتلال بلادهم، والذين تخطّى عددهم اليوم، وفق أضيق الاحصاءات، النصف مليون سوريّة وسوريّاً بكثير. ومع هذا التغييب، يتمّ تجاهل حقيقة أنّ أيّة تسوية جادّة ونهائيّة لمصير الجولان المحتلّ، تحظى بالشرعيّة القانونيّة ودعم المجتمع الدوليّ، لا يمكن لها أن تمضي في تجاهل قضيّة مئات الألوف من السوريّين المهّجرين إلى مناطق أخرى في بلادهم وفي الشتات، منذ 54 سنة وحقّهم بالعودة إلى أرضهم.
لقد عزّز الدمار الذي لحق بسوريا على كلّ المستويات، من إمكانيّة تحقيق مطامع دولة الاحتلال في الاحتفاظ بالجولان إلى الأبد- وفق تعبيرات قادتها، ووجدت فيه فرصة لا تُعَوَّض لتحقيق غايات قرارها بضمّ الجولان؛ ما شجّعها على إطلاق أكبر مشاريعها الاستيطانيّة وأكثرها جديّة منذ احتلالها الجولان؛ في مسعىً لتوطين عشرات الألوف من المستوطنين الجدد في الأراضي السوريّة خلال السنوات القليلة القادمة. ولأجل ذلك فإنّ مخطّطاتها الحاليّة تتضمّن تطوير وتوسيع البنية التحتيّة لخلق أسواق للعمل تشجّع المستوطنين اليهود على القدوم للجولان، كما تبيّن ذلك وثائق اللقاء الحكوميّ الذي عقد مؤخّراً في مستوطنة “خسفين”.
ترتبط الهويّة السياسيّة لسوريّي الجولان، وموضوع الجنسيّة، بشكل وثيق مع قرار الضمّ وما ترتّب عليه لاحقاً، وما تزال تشكّل محوراً مركزيّاً على أجندة تمتين قبضة الاحتلال على الجولان، أرضاً وموارداً وسكًاناً. كما أنّ النتائج المنظورة والمترتّبة على التجنّس بالجنسيّة الإسرائيليّة، كالخدمة العسكريّة في جيش الاحتلال وفي مؤسّساته الأمنيّة، وسياسات إعادة تشكيل الهويّة الثقافيّة والسياسيّة لأبناء الجولان، تظلّ تؤرّق الأهالي وتفاقم مخاوفهم على مستقبل أبنائهم. وكان المرصد قد نشر معطيات إحصائيّة ، تدحض الحملات الدعائيّة المبالغ بها، بخصوص موضوع التجنّس، مطلع 2018، وذلك عشيّة فرض أوّل انتخابات للمجالس المحليّة في قرى الجولان، وتبيّن بالأرقام، الصورة الواقعيّة للتحوّلات التي طرأت على نسب التجنُّس عبر سنوات الاحتلال.
من خلال أحدث المعطيات التي حصل عليها المرصد، والتي تغطي الفترة ما بين آذار/مارس 2018 وأواخر أيلول/سبتمبر 2021، يمكن الوقوف عند الملاحظات الجديدة التالية:
1. بلغ عدد حملة الجنسيّة الاسرائيليّة، حتى تاريخ 30.09.2021، والمسجّلين كمقيمين في قرى الجولان الأربع: مجدل شمس، بقعاثا، مسعدة وعين قنية (باستثناء قرية الغجر، ونظراً للظروف الاستثنائيّة التي عرضنا لها في البيان السابق؛ الصادر في الثاني والعشرين من نيسان 2018)– 3792 جنسيّة. يشمل ذلك الأبناء والبنات ممّن ورثوا الجنسيّة عن آبائهم وأمّهاتهم، وكذلك الزيجات من خارج الجولان، والأفراد والعائلات الذين انتقلوا من الجليل والكرمل أو أماكن أخرى للإقامة في الجولان. بينما لا تزال قوانين حكومة الاحتلال تصنّف الأغلبية الساحقة من سكّان القرى، وعددهم 21346، كـ”مقيمين دائمين” وقوميّتهم “غير معرّفة”، ويشكّلون 85% من مجمل تعداد السكّان.
2. خلال الثلاث سنوات ونصف الأخيرة، ارتفعت معدلات تقديم طلبات التجنّس بنسبة 3%، وقُدِّم خلالها 401 طلباً، ما يجعل النسبة الإجماليّة لحملة الجنسيّة المسجّلين في القرى الأربع، قياساً بالعدد الإجماليّ للسكّان، تبلغ 15% .
3. باحتساب التحديثات الأخيرة للبيانات الإحصائيّة التي حصل عليها المرصد، فإنّ الأشخاص الذين تقدّموا، طوعاً وبإرادتهم الحرّة، بطلبات للحصول على الجنسيّة الإسرائيليّة، وفق معطيات سلطة السكّان والهجرة، خلال 54 عاماً؛ أي منذ عام 1967 حتى أواخر أيلول/سبتمبر 2021، (تشمل الأحياء والمتوفين) هو 2159 طلباً، أي ما يعادل 8.5% من تعداد السكّان الحاليّ.
4. الملفت أنّ الطلبات المقدّمة من مجدل شمس لوحدها، في السنوات الأربع الأخيرة، تشكّل 60% من مجمل طلبات التجنّس في عموم الجولان، في حين أن تعداد سكانها لا يتجاوز 46% من مجمل عدد السكّان في القرى الأربع. وبينما شهد العام 2019 ذروة تقديم طلبات التجنّس من بقعاثا ومسعدة، تلاها انخفاض ملحوظ خلال 2020 و2021، فقد شكّل العام الحاليّ، 2021، الذروة في مجدل شمس، بعدد يقارب المئة طلب. (مع الملاحظة أنّ بعض الطلبات قد تشمل أكثر من شخص واحد، وأنّ المجنّسين المسجّلين كمقيمين في أماكن أخرى، خارج قرى الجولان الأربع، لا تشملهم هذه الأرقام).
في كل الأحوال، فإنَ السياسات القسريّة في فرض جنسيّة القوّة المحتلّة على سكّان الجولان السوريّين، سواءً بالإكراه؛ كما حدث أيّام انتفاضة الهويّة، أو بالترغيب والتظليل والإغراء؛ كما يحدث هذه الأيام، تتنافى مع قاعدة أساسيّة لحقوق الانسان، تنصّ على “حقّ كلّ فرد في التمتّع بجنسيّة ما”، إضافة إلى أنّه “لا يجوز حرمان أيّ شخص من جنسيّته تعسُّفاً” (الإعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1948). كما تتنافى هذه السياسة مع قواعد وأحكام المادّة 47 المتعلّقة بحماية الأشخاص المدنيّين وقت الحرب لعام 1949، إذ تنصّ على أنّه “لا يُحْرَم الأشخاص المحميّون الذين يوجدون في أيّ إقليم محتلّ، ولا بأيّة كيفيّة، من الانتفاع بهذه الاتفاقيّة؛ سواءً بسبب تغيير يطرأ، نتيجة احتلال الأراضي، على مؤسّسات الإقليم المذكور أو حكومته، أو بسبب أيّ اتفاق يُعقد بين سلطات الإقليم المحتلّ ودولة الاحتلال، أو كذلك بسبب قيام هذه الدولة بضمّ كلّ أو جزء من الأرضي المحتلّة”.
ما هو مؤكّد، أنّ كلّ مشاريع الاحتلال لإعادة تشكيل هويّة سوريّي الجولان، بما يتّفق مع غاياتها وسياساتها الرامية إلى تثبيت سيادتها المزعومة على الأرض السوريّة المحتلّة، لن تكون كافية لحسم مصير الجولان لصالحها، حتى لو افترضنا قدرتها على تحويل كلّ السكّان الأصليين المتبقّين في الجولان، إلى مواطنين مسجّلين لديها. في نفس الوقت، وفي ظلّ التحولات الكبيرة، فإنّ تمسّك الغالبية العظمى من سكّان الجولان بهويّتهم العربيّة السوريّة، يحمل بعداً أخلاقيّاً وقيمة رمزيّة كبيرين، لاسيّما وأنّ السياسات الناعمة والمخادعة التي تنتهجها سلطات الاحتلال تجاه سكّان القرى السوريّة، في سياق عملية إدماجهم أو شراء ولاءاتهم، سرعان ما تتبدّد عندما تصطدم إرادة السكّان ومصالحهم الحقيقيّة مع مشاريع دولة الاحتلال ووكلائها، فتعود الى طبيعتها القمعيّة العنيفة؛ بوصفها سياسات تمييز ممنهج ضدّ السكّان العرب.. كما حدث عند فرض انتخابات المجالس المحليّة، أو في الأطوار المتعاقبة لمشروع “مزارع الرياح” الكارثيّ، والذي لم يبلغ مآلاته الأخيرة بعد.
سيظلّ واقع احتلال الجولان، على الدوام، الحقيقة التي تنتج وتوّلد الصراعات، ما لم يتمّ تفكيكه وإنهاؤه بطريقة عادلة.
المرصد – المركز العربيّ لحقوق الإنسان في الجولان