أسباب انتشار الجراثيم في فصل الشتاء

يعد موسم الإنفلونزا حقيقة من حقائق الحياة، لكن أحدا لم يكن يعرف السبب وراء ذلك حتى وقت قريب، كما أن الإجابة تتعلق بالطريقة المقززة التي تنتقل بها الجراثيم بين الناس.

يبدأ موسم الإنفلونزا في الوقت الذي تتساقط فيه أوراق الشجر، ويبدأ معه الأنين الناتج عن إصابتنا في أحسن الأحوال بالرشح الذي يتركنا نحس كأننا ابتلعنا مبشرة جبن، وإذا كان حظنا عاثراً، تضرب أجسادنا حمى شديدة وألم مفاصل يستمر أسبوعاً أو أطول، هذه هي الإنفلونزا.

يحل موسم الإنفلونزا في وقته المتوقع ويؤثر على كثير منا، وليس لدى العلماء فكرة واضحة عن سبب انتشار الجراثيم في الطقس البارد، وقد توصل العلماء في السنوات الخمس الماضية إلى إجابة ربما تمهد الطريق لوقف انتشار العدوى، وتدور بشكل رئيسي حول الطريقة التي ينتشر بها رذاذ العطس في الهواء.

لكن هذا الفهم الجديد لمرض الإنفلونزا لم يأت بالسرعة اللازمة نظراً لأن الفيروس المسبب لها يتغير بسرعة، ولا يكون الجسم مستعداً لمقاومة الفيروس الجديد في الموسم القادم، وهكذا فإنه يصيب حوالي خمسة ملايين من البشر حول العالم، ويتسبب في وفاة ربع مليون شخص كل عام.

تقول جين ميتز من جامعة بريستول: “المناعة التي نطورها لا تتعرف على الفيروس، ولهذا نفقد مناعتنا في مواجهته”.

كما أن هذه الحقيقة تجعل من الصعب صناعة لقاحات فعالة، وعلى الرغم من إمكانية تصميم حقنة مضادة لكل مرض، إلا أن الحكومات عادة ما تجد صعوبة في إقناع كثير من الناس بتعاطي هذه الحقن.

الأمل معقود على أن الفهم الأفضل لسبب انتشار الإنفلونزا في فصل الشتاء وتلاشيها بشكل طبيعي في فصل الصيف، سيمكن الأطباء من إيجاد وسائل بسيطة للحد من انتشار المرض.

النظريات السابقة تركزت حول أنماط سلوكنا فنحن نقضي وقتاً أطول داخل البيوت في فصل الشتاء مما يعني أننا على اتصال أقرب بالآخرين الذين يمكن أن يكونوا حاملين للجراثيم.

ونصبح أكثر اعتماداً على المواصلات العامة على سبيل المثال، وعندما نكون محشورين بين المسافرين الآخرين الذين يسعلون ويعطسون داخل وسائل المواصلات العامة، يكون من السهل التقاطنا لجراثيم المرض.

وتسود فكرة أخرى تتعلق بتركيب أجسامنا، فالطقس البارد يقلل من مناعة الجسم ضد العدوى ، وفي أيام الشتاء القصيرة، التي لا تسطع فيها الشمس لوقت طويل، تتراجع نسبة فيتامين د في أجسادنا، وهو الفيتامين الذي يساعد على تقوية نظام المناعة في الجسم، مما يجعلنا عرضة للعدوى.

إضافة إلى ذلك، عندما نتنفس الهواء البارد، تتقلص الشعيرات الدموية داخل الأنف لمنعه من فقد الحرارة، وهذا بدوره يمنع خلايا الدم البيضاء من الوصول إلى الأغشية المخاطية والحيلولة دون القضاء على أي فيروسات نتنفسها، وبالتالي دخول هذه الفيروسات إلى أجسامنا، (وربما كان هذا هو السبب في أننا نصاب بالرشح عندما نخرج ورؤوسنا مبتلة).

وبينما تلعب هذه العوامل دورا ما في عملية الانتقال، إلا أنها لا تكفي لشرح سبب انتشار الإنفلونزا في كل عام في موسم محدد. ولعل الإجابة تكمن في الهواء الذي نتنفسه.

فبفضل قوانين الانتقال الحراري (الثيرموداينامكس)، فإن الهواء البارد يتمكن من حمل بخار ماء أقل حتى يصل إلى نقطة الندى ويتساقط على شكل أمطار، لهذا فإنه بينما يبدو الجو في الخارج مبتلاً، يكون الهواء ذاته أكثر جفافاً لأنه يفقد رطوبته.

وكشفت سلسلة من الأبحاث خلال السنوات القليلة الماضية أن هذه الظروف الجافة تعتبر بيئة ملائمة لفيروس الإنفلونزا.

فقد اختبر العلماء كيفية انتشار فيروس الإنفلونزا بين فئران المختبرات، فوجدوا أنه في الهواء الرطب يجد الوباء صعوبة في الانتشار، بينما ينتشر في الهواء الجاف انتشار النار في الهشيم.

وبمقارنة السجلات الصحية مع حالة الطقس لمدة ثلاثين عاماً، توصل جفري شامان من جامعة كولومبيا إلى أن وباء الإنفلونزا يأتي في أعقاب انخفاض نسبة الرطوبة في الهواء.

وقد تكرر الوصول لنفس النتيجة في كل مرة أجريت فيها أبحاث على فيروس الإنفلونزا بما في ذلك وباء إنفلونزا الخنازير عام 2009.

ذلك الاستنتاج يتعارض مع البدهية التي نؤمن بها والقائلة إن الهواء الرطب يسبب لنا المرض ولا يحمينا من المرض، وفي ذلك الإطار يكون من المفيد لنا أن نفهم الآليات الغريبة لعملية السعال والعطس التي نمارسها.

ففي أي وقت نسعل فيه بسبب البرد، يخرج رذاذ جسيمات من أنوفنا وأفواهنا في الهواء الرطب تبقى هذه الجسيمات كبيرة نسبياً وتسقط على الأرض.

لكن في الهواء الجاف تتشظى تلك الجسيمات إلى قطع أصغر، وتتحول إلى أجزاء متناهية الصغر من المخاط والفيروسات والخلايا الميتة التي يمكن أن يلتقطها كل من يدخل الغرفة.

فضلا عن ذلك يعتبر بخار الماء الموجود في الهواء ساماً للفيروس في حد ذاته وربما بتغيير درجة الحموضة أو الملوحة في المخاط، يقوم الهواء المبلل بتغيير سطح الفيروس مما يعني أنه يفقد سلاحه الذي يمكنه من مهاجمة خلايا أجسامنا.

أما في الهواء الجاف، فيمكن للفيروسات أن تستمر نشطة لعدة ساعات إلى أن يتم ابتلاعها أو استنشاقها، ويمكنها أن تسكن في خلايا حلوقنا.

يوجد بالطبع استثناءات لهذه القاعدة العامة فمع أن الهواء في الطائرات جاف بشكل عام، لا يبدو أنه يزيد من خطر الإصابة بالإنفلونزاـ ربما لأن الهواء نفسه تجري تنقيته من أي جراثيم، قبل أن تتمكن من الانتشار.

وعلى الرغم من أن الهواء الجاف يساعد على انتشار الإنفلونزا في المناطق المعتدلة من أوروبا وأمريكا الشمالية، فإن بعض النتائج المعاكسة تقول إن الجراثيم تعمل بطريقة مختلفة في المناطق الاستوائية.

أحد التفسيرات لذلك هو أنه في الطقس الاستوائي الحار والرطب، يلتصق الفيروس على مزيد من الأسطح داخل الغرفة، لذا فإنه رغم عدم قدرته على الحياة في الهواء بطريقة جيدة، فإن فيروس الإنفلونزا يمكن أن يكون موجوداً في أي شيء تلمسه، مما يزيد من احتمال مروره من اليد إلى الفم.

لكن في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، يمكن لهذه الاكتشافات أن ترشدنا إلى طرق بسيطة لقتل الجراثيم أثناء وجودها في الهواء.

يقول تايلور كويب من مستشفى مايو كلينيك في مينيسوتا إن تشغيل مرطب للهواء في مدرسة لمدة ساعة يمكنه أن يقتل 30 في المئة من الفيروسات التي يحملها الهواء، وهناك أيضا إجراءات مماثلة، من قبيل سكب ماء بارد في أماكن تواجد المرض كالمستشفيات أو صالات الانتظار.

وبالنسبة للمواصلات العامة يمكن تحقيق نفس النتائج، ويقول كويب في هذا الصدد: “قد تكون تلك طريقة مفيدة لمكافحة انتشار المرض الذي يحدث على نطاق واسع كل عدة سنوات عندما يتغير فيروس الإنفلونزا، وتأثير ذلك إيجابي وملموس على صعيد تكلفة العناية الصحية، وتكلفة أيام العمل والدوام المدرسي المفقودة نتيجة انتشار المرض”.

ويعمل شامان الآن على استكشاف دروب أخرى، يعقتد أنها تتضمن مبدأ التوازن الدقيق، ويقول: “على الرغم من أن الرطوبة العالية مرتبطة بمعدلات منخفضة لأعداد الناجين من الإنفلونزا، هناك مسببات أخرى للمرض مثل العفن المرضي الذي ينتعش في وجود الرطوبة العالية، لذلك يلزم الحذر عند زيادة رطوبة الهواء، فهي ليست مفيدة على الدوام”.

ويؤكد العلماء على أن إجراءات من قبيل اللقاحات والنظافة الشخصية هي أفضل الطرق للوقاية من المرض، أما استخدام بخار الماء لمكافحة الجراثيم فهو إجراء إضافي. لكن عندما تتعامل مع عدو متفش وصعب الملاحقة كفيروس الإنفلونزا، فإنك بحاجة لاستخدام كافة الأسلحة التي بحوزتك.

+ -
.