كانت باريس آخر محطة في رحلة امتدت لشهر وكانت أيضا مسك الختام، لأنها دائما تنجح في خلق صور تذكرنا بأنها فعلا أم الموضة ومهدها. إحساس تستشعره حتى خارج قاعات العرض، من خلال مظهر محررات الأزياء والحضور عموما. فهو مختلف عن مظهرهن في عواصم أخرى مثل لندن أو ميلانو، من حيث ميله إلى أناقة تجمع بين الرقي واللامبالاة بدل الاستعراض ونفش الريش إلا إذا استثنينا شريحة قليلة من الشابات أغلبهن من آسيا ممن يعانقن أسلوب يوجي ياماموتو أو إيسي مياكي القديم.
لكن أكثر ما يلفت النظر هذا الموسم توجه كثير من المصممين لتغذية الـ«إنستغرام» وتلبية متطلباته بكل ما يخطر على البال من ألوان وتصاميم، أو على الأقل طريقة تنسيقها لكي تأتي الصورة لافتة. وهنا تكمن أهمية خبراء التنسيق الذين أصبح لهم دور مهم في نجاح العرض أو فشله. الفشل هنا بمعنى عدم لفته الأنظار وحصوله على تغطيات «إنستغرامية»، وعلى «سنابتشات». فالآن، مهما أبدع المصمم يحتاج إلى من يضع لمساته الأخيرة على ما سهر الليالي على تصميمه. بعضهم نجح في المهمة بخلق صورة تلعب على المتناقضات المتناغمة التي يعشقها الباباراتزي وتناسب «موضة الشارع» كما تعرف الآن، وبعضهم اختار التنوع وطرح اقتراحات متعددة حتى إذا فشلت إطلالة في كسب الرضا، تنجح أخرى في لفت الانتباه. كان هذا هو حال ألبير إلبيز، وإيلي صعب، و«بالنسياجا»، و«سان لوران»، و«كلوي» وغيرهم. في المقابل، ظل آخرون متشبثين بالأناقة الراقية كما عودتنا عليها عاصمة النور، مثل «هيرميس»، و«ألكسندر ماكوين»، إلى حد أن بعضها يبدو مستقى من الـ«هوت كوتير» أو امتدادا لها، كما هو الحال في تشكيلة «ميزون مارجيلا» مثلا. فهذه تعد رابع تشكيلة يقدمها جون غاليانو لها حتى الآن، وأهم ما يلفتك فيها ثقتها التي تعكس ثقة مصممها. فقد تأقلم معها وبدأ أسلوبه الدرامي ينصهر مع أسلوبها الهادئ بتناغم وسلاسة، وهو ما تجلى في كثير من القطع التجارية. ولا بد من الإشارة إلى أن معنى التجاري هنا إيجابي لأنها قطع ستجد طريقها إلى خزانة امرأة أنيقة بسهولة ومن دون حاجة إلى إحداث أي تغييرات تُذكر. فالمأخذ على جون غاليانو سابقا، أن بعض الجهات، منها المحلات والمشترون، كانت تشتكي أن الفانتازي كان يغلب على الجانب العقلاني في عروضه وتصاميمه على حد سواء. ورغم أن الكل كان يجمع على أنها تحاكي التحف في فنيتها، كما كانت تسحر العين وتشد الأنفاس فإنها كانت تبقى مجرد صور في الخيال والمجلات البراقة وبضاعة في المخازن. هذه التشكيلة في المقابل، لن تعاني من هذه المشكلة، فهي تشير إلى أنه روض جنوحه لأن العملي فيها تزاوج بشكل متوازن مع الرومانسي، علما بأن العملية كلها مجرد ترويض وليست تغييرا جذريا لأسلوب أدخله مصاف المبدعين. فميله لإحداث الصدمة لم يغب تماما لكنه لحسن حظ المرأة اقتصر على تسريحات شعر جاءت على شكل خلية نحل وبعض القطع التي تحسب على أصابع اليد الواحدة. ففيما تميزت معظم الإطلالات، بالأناقة والرومانسية ولن تحتاج إلى أي تغيير، بدت أخرى صادمة للوهلة الأولى، لكن بعد تفكيكها وتنسيقها مع قطع مختلفة، يتبين أنها تتضمن كثيرا من الجمال وغير متجردة عن الواقع تماما. أكثر ما ميز المعاطف والفساتين، مثلا، الأكتاف المنحنية التي تعطي إحساسا باللامبالاة والحرية، أو الأكمام القصيرة والقمصان البسيطة التي نسقها مع تنورات طويلة بأقمشة معدنية لامعة تنسدل على الجسم بدل أن تعانقه وتشده. بعبارة أخرى، كل قطعة هنا فريدة في تصميمها تجمع أسلوب جون غاليانو، الذي تعشقه أوساط الموضة، من دون أن تلغي أسلوب «ميزون مارجيلا» الدار التي احتضنته منذ عامين تقريبا. فترة تبدو قصيرة لكنها في عمر الموضة طويلة، الأمر الذي يعرفه غاليانو جيدا ولا يتهاون فيه، وربما وضعه تحت ضغوط في السابق. فمن جهة، هناك توقعات المعجبين الكبيرة، ومن جهة ثانية رأى البعض أن العلاقة بينه وبين «ميزون مارجيلا» غير منسجمة أو متوازنة. تبرير هؤلاء أن أسلوبه درامي ورومانسي، بينما «ميزون مارجيلا» وحتى الآن تتعامل مع الموضة بعملية «باردة» وكأنها تتعامل مع أفكار مجردة في مختبر علمي. بيد أن المتابع لمسيرة غاليانو يعرف أنه هو الآخر يميل إلى الاختبار والابتكار، بحيث يبقى الاختلاف بينهما في التعبير والأسلوب فقط. ولذلك، وبعد أربعة مواسم فقط بدأ الزواج يثمر تشكيلات تلمس وترا حساسا بداخل شرائح أكبر من نساء العالم، وهذا ما كانت تأمله «ميزون مارجيلا» عندما استعانت به أساسا، وفي الوقت نفسه يعزز مكانته، ولا يؤثر على سمعته كونه مبدعا. الطريف أنك لو سألت أحدا من هذه الشريحة التي لا تزال ترى عدم انسجام الأسلوبين، عن المصمم الأنسب لـ«ميزون مارجيلا» لذكروا اسم كريستوف لومير نظرا لأسلوبه الغارق في البساطة ظاهريا والتعقيدات الباطنية. وهذا تحديدا ما ظهر في عرضه للموسمين المقبلين. فقد تميزت تشكيلته، أي كريستوف لومير، بخطوطها الواسعة والطويلة، مع لمسة ذكورية تجسدت في الأحجام الكبيرة تحديدا والألوان الأحادية، لم يغفل أن يحقن بعضها بجرعات من الألوان والنقوشات التي أضفت عليها عصرية وحيوية كانت تحتاجها بالنظر إلى تصاميمها الصارمة في بعض الأحيان كذلك أطوالها. جدير بالذكر أن كريستوف لومير كان إلى عهد قريب جدا مصمم دار «هيرميس» وهو ما يمكن أن يفسر ذلك الإحساس بأننا نتابع عرضا عنوانه الرقي يخاطب شابة تريد أن تتعامل مع الموضة بجدية، وفي الوقت ذاته تريد أن تُؤخذ بجدية من قبل المحيطين بها، من خلال أزياء قوية الشخصية.
بالنسبة للمصمم أنطوني فاكاريلو، الذي سبق وأتحف أوساط الموضة بعرض مثير في لندن من خط «فيرسيس فرساتشي» فقد قدم خطه الخاص في باريس، بالقوة نفسها. ما يُحسب له أنه على الرغم من أنه لم يخفف من عنصر الإثارة وبعض الحسية التي ظهرت في كثير من القطع، فإن الأسلوب اختلف عن ذلك الذي اعتمده في خط «فيرسيس». فهو يُدرك تماما أن عليه أن يقوم بدورين، يتقمص في كليهما شخصية مختلفة تماما عن الأخرى، وإلا اتهم بالتكرار، أو «الإفلاس الفني» وهو ما لا يريده أي مصمم شاب، وتجسد في تشكيلة غلبت عليها قمصان مفصلة باللون الأبيض مع استعمال قماش الدينم المطبوع وبنطلونات جينز عالية الخصر، وطبعا لم يغب أسلوبه الخاص المتمثل في التفصيل المشدود على الجسم وبعض القمصان الشفافة التي يمكن أن تكون إضافة إلى خزانة أي واحدة، أيا كان أسلوبها، في الموسمين المقبلين.