
شخصياً، وباستثناء مدينتي درعا، أكثر شريحة عملت معها خلال الثورة، سواء في تنظيم المظاهرات أو في العمل الإغاثي، كانوا من أبناء السويداء.
بعد عودتي إلى سوريا عقب سقوط النظام الذي حرمني من بلدي لاثني عشر عاماً، قررت زيارة السويداء بعد درعا، لما لهذه المحافظة وأهلها من مكانة خاصة في قلبي.
وصلت إلى ساحة الكرامة ظهراً، حيث كان المشاركون يتراقصون على أنغام “ارفع راسك فوق، انت سوري حر”. شاركتهم الرقص والفرح، حالِمين بسوريا ديمقراطية وعادلة لكل أبنائها.
وعندما علموا أنني من درعا البلد، أصرّ بعض الحاضرين على دعوتي إلى الغداء في مضافة العائلة.
في المضافة، التقيت ببعض المسؤولين عن تنظيم ساحة الكرامة. تبادلنا الحديث في السياسة، وكانوا كغيرهم من أهل السويداء يحذوهم الأمل في التغيير الجديد. بل إنّ بعضهم اتهمني بالسوداوية والتشاؤم عندما عبّرت عن مخاوفي (مع أنني كنت أكثر تفاؤلاً حينها مما أنا عليه اليوم).
شرحوا لي أنهم يكنّون الاحترام لمشايخهم، لكنهم يرفضون احتكارهم لصوت السويداء، مؤمنين بأن شباب الساحة هم الأجدر بحمل الراية. عبّروا كذلك عن خوفهم من مطامع إسرائيل، لكن انتماءهم لسوريا لم ولن يتزحزح قط، كما كان الحال في كل تاريخهم.
وبعد وليمة الغداء، ودّعني الحضور على أنغام “درعا البلد يا جبل عالي” .
بعد الوليمة، أصرّ والد صديقتي على أن أكون ضيفه في منزله، وأخذني في جولة إلى أحياء السويداء القديمة. وهناك، دخلت مضافة العمّ.
كانت الجدران مزينة بصور أجداده الذين شاركوا في الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، أو في معارك الاستنزاف ضد إسرائيل.
كان العمّ علمانياً حتى النخاع، حراً بطبعه، لا يتّبع شيخاً ولا يُقاد إلا بقناعاته. وكان يتحدث بحرارة عن أهمية تفعيل النقابات، وإعادة الاعتبار لدور الشباب في قيادة المرحلة المقبلة.
ودّعت السويداء على أمل العودة قريباً، فقد كنت حينها قد اتخذت قرار العودة إلى سوريا بشكل دائم بعد بضعة أشهر.
لكن الجولاني وشبيحته لم يمهلونا طويلاً: دمّروا ذلك الحلم، أو في أحسن الأحوال، أجبرونا على تأجيله إلى أجل غير مسمّى.
السويداء التي تحدّت الأسد، ورفضت أن ترسل أبناءها ليكونوا مجرمين أو وقوداً في الحرب ضد إخوتهم السوريين.
السويداء التي أضاءت شعلة الثورة حين خفتت في 2020.
السويداء التي مات أبناؤها، كصديقي رامي الهناوي، في محاولات إغاثة ريف دمشق ودرعا.
السويداء التي قدّمت منشقين شجعان، أمثال خلدون زين الدين، الذين رابطوا مع إخوانهم في درعا ضد همجية النظام.
السويداء التي شاركت في معركة التحرير، فاتحة ذراعيها لسوريا الجديدة التي نحلم بها جميعًا.
ومع كل هذا، ماذا طلب أهلها؟
لم يطالبوا بالانفصال ولا بالامتيازات، بل جُل ما طلبوه كان للشعب السوري بكافة أطيافه.
طالبوا بوطن واحد، عادل، ديمقراطي، لا مركزي، يعترف بكل أبنائه ومكونات شعبه.
طالبوا بإعلان دستوري لا يقصيهم، ولا يقصي غيرهم.
طالبوا بحوار وطني حقيقي، لا شكلي.
ومع كل التضحيات التي قدمتها السويداء، كيف كافأهم جزء كبير من السوريين؟
بدأت سلطة الأمر الواقع بتجييش شبيحتها ضد أهل السويداء، واتهامهم بالخيانة والعمالة لإسرائيل — في الوقت نفسه الذي كانت فيه السلطة تفاوض إسرائيل علناً في الإمارات، وأذربيجان، وباريس.
نصبت حول حدود السويداء حواجز مستفزة يترأسها عشائر بدو لهم تاريخ حافل من الصراع مع أهل السويداء، ثم سكتت السلطة عن تجاوزات هذه الحواجز من سرقة وابتزاز، ثم استغلت السلطة خلافاً بدأ بين مواطن من السويداء مع احد الحواجز واكثرها تطرفاً واستفزاز، ليتحول لصراع بين بعض الميليشيات المسلحة المحلية وبعض عشائر البدو. وهكذات بررت السلطة هجومها على المدينة، مستقوية بدعم أمريكي فُسّر بغباء وعنجهية على أنه دعم لا مشروط حتى ولو على حساب طفل امريكا المدلل اسرائيل.
دخلت قوات الأمن متحالفة مع بعض العشائر التي قد كانت قد تحالفت لسنين طويلة مع النظام السوري الايراني لتهريب المخدرات، قبل أن يُنسى كل هذا يصدر طبق كرامة في مضافة المرسومي.
وكنتيجة أي غزوة تقوم بها السلطة الفاشلة، خلّفوا وراءهم مجازر: إعدامات ميدانية، حرق بيوت، خطف نساء، نتف شوارب، وسرقة كل ما تطاله أيديهم… حتى حيوانات المزارع لم تنجُ من دناءتهم. طلابهم في الجامعات لم يسلموا.
مضايقات، تهديدات، ملاحقات، تشبه كثيراً ما عشناه في الجامعات السورية نحن أبناء درعا في بداية الثورة.
رفضت السلطة الحوار، وفرضت على مشيخة العقل اتفاقاً مذلاً.
لكن أهل السويداء، كراماً كما عهدناهم، لم يخضعوا.
نهض كبيرهم وصغيرهم، وبعضهم حمل السلاح لأول مرة بمن فيهم النساء، دفاعاً عن أرضهم وكرامتهم.
عندها فقط، قررت إسرائيل تذكير الجولاني بموقعه، فقُصف القصر الجمهوري، ومقر الأركان، وبعض حشود الأمن.
وهنا، تحديداً هنا، شعر الهجري أن الكفّة مالت، فنكث الاتفاق وأعلن عداءه للسلطة.
مرة أخرى، ليس أهل السويداء من التحقوا بالهجري، بل هو من التحق بهم.
وهذه ليست سابقة؛ ففي عام 2022، حين خرج أهل السويداء في مظاهرات في ساحة الكرامة تحولت لاحقًا إلى انتفاضة شعبية ضد النظام، التزم الهجري الصمت في البداية.
وحين أيقن أن الناس قررت اللا عودة، قرر أن يصدر بيانه ويُظهر دعمه للحراك.
واليوم كذلك، ليس هو من يطالب بالدولة الديمقراطية اللامركزية، بل أهل السويداء بأغلبيتهم المطلقة من يريدون ذلك وهو التحق بركبهم، والسلطة تحديداً من اختارته كممثل لهم بعد سقوط النظام، وهذا يتوافق مع فهم السلطة للمجتمع السوري كطوائف دينية لا مواطنين ذوي حقوق سياسية.
هو لا يقود الحراك، بل يلتحق به حين يصبح التيار الشعبي جارفاً، وتلك — وإن اختلفنا مع تدخل رجل الدين في السياسة — أجمل أنواع البراغماتية: أن يسير رجل الدين خلف شعبه، لا أن يتقدّمه.
اليوم، يشعر أهل السويداء بما شعرنا به في درعا من قهر وظلم حين حاصرنا نظام الأسد في نيسان 2011.
العمّ العلماني، الذي رأيت في بيته صور أجداده ممن قاوموا الاحتلال الفرنسي والإسرائيلي، يحمل السلاح اليوم دفاعاً عن أرضه.
وصديقتي، التي طربت معي على أنغام “ارفع راسك فوق انت سوري حر”، وكانت ترفض رفع أي علم غير السوري في ساحة الكرامة، تقول لي اليوم إن لا علم يمثلها كما يمثلها علم الدروز.
صديقتي، ومئات مثلها، يشعرون بالخذلان.
بالظلم الذي عشناه نحن في درعا، وبخذلان السوريين لهم.
يشعرون بالجحود، بنسيان تضحياتهم، بتجاهل قهرهم، بمعاناتهم، وبسجنهم الكبير الذي عاشوه لثلاثة عشر عاماً في مدينتهم لئلا يُجبروا على التوغل في دم إخوتهم وإرسال أبنائهم للجيش.
على هذه السلطة، وقبل أن نتحدث عن أيديولوجيتها، أن تفهم أنها سلطة غبية، لا تمتلك أبسط مقومات قيادة دولة بتعقيد سوريا.
إذا كانت جادة في الحفاظ على وحدة البلاد، فعليها أن تفهم أن القوة وحدها لا تكفي.
من قاوم مخرز بشار الأسد 14 عاماً، لن يخنع لديكاتور جديد.
الشعب السوري وحده من يقرر شكل دولته، لا التركي ولا الأميركي.
إن كنتم جادين فعلاً في مشروع وطني، فابدؤوا بالحوار، ومدّوا اليد للمختلفين عنكم، وطمئنوا جميع المكونات عبر بناء دولة قانون، دولة مواطنة، دولة ديمقراطية لا تميّز بين أبنائها.
لا يمكن أن تهجموا بشكل همجي على مدينة سورية لفرض وحدة سوريا، وعندنا يقول لكم أحد أبناء المدينة “سوري أنا يا أخي”، فتردون عليه “إيش يعني سوري؟” ثم تصيبوا قلبه برصاصة…
رصاصة ما زالت تشق طريقها إلى قلوبنا… وإلى قلب سوريا.
لا أحب الهجري، ولا أحب أي رجل دين يعمل بالسياسة.
لكن تحويله إلى الشيطان الأكبر وتجاهل فشل السلطة وغبائها وبطشها، هو اختزال ساذج للواقع.
أما عن تهمة العمالة لإسرائيل، فقد كانت تهمة هزيلة منذ عهد الأسد، لكنها اليوم أصبحت أكثر سماجة حين تصدر عن سلطة تفاوض المحتل سرًا وعلنًا، يدعو رئيسها لبناء تحالف مع إسرائيل قائم على الأهداف الاستراتيجية. وهنا، بالطبع، أعبّر عن رفضي لأي تعامل مع المحتل، سواء من قبل الجولاني أو الهجري.
وربما من المفيد أن تعلموا أن عائلة الهجري تمارس مشيخة العقل منذ أكثر من قرنين، وإن مات الهجري فهناك مئة هجري آخر.
قل لي أنت، يا شبيح العصر الجديد: ماذا فعل قائدك البراغماتي لتعلن انتصاره؟
أراد دخول السويداء، فوجد نفسه يتلقى القصف في مقره بدمشق.
سحب قواته مكسوراً، ثم وقّع اتفاقاً مع إسرائيل يلزمه بالتخلي عن السيطرة العسكرية على الجنوب.
ورط عشائر البدو في حرب كلفتهم تهجيرهم من أرضهم.
وفوق كل ذلك، فضيحة عالمية: كل قنوات الأخبار تتحدث عن الإعدامات الميدانية، عن التطرّف، عن انتهاكات السلطة. حتى أن هناك فيديو موثّق يظهر أميركي الجنسية أُعدم ميدانياً مع عائلته لمجرّد أنهم دروز.
واليوم، يعود النقاش لأهمية العقوبات للواجهة — العقوبات التي لم تُرفع أصلًا، وعلى رأسها قانون قيصر.
والأخطر من كل ذلك: الشرخ الكبير الذي أحدثه هذا السلوك بين الدروز وقسم كبير من الشعب السوري، علماً أن جرح الساحل لم يندمل بعد..
وأخيراً أقول لأحبتي في السويداء: خذل الله من خذلكم، “والعشرة ما بتهون إلا على ابن الحرام..”