أن تحب شخصين في آن واحد

عندما نحبّ شخصين في آن واحد، نعيش غالباً حالتين من الشعور: الأولى تتمثّل في قوة التعلّق الدائم والثانية في حماسة البداية. يمكننا أن نُكّنّ الحبّ لشخصين لكن أحدهما فقط يكون محور الرغبة العاطفية المحضة. في هذه الحالة تتعقّد الأمور ويصعب العيش وتظهر المعاناة على الصعيد النفسي الشخصي أولاً ومن ثم على الثنائي القائم، وتستمر هذه الإشكالية ما دمنا نعيش هذه الإزدواجية العاطفية

 

نخوض هذه الحياة العاطفية المزدوجة خوفاً من الإرتباط أو بسبب الضجر والملل وعدم الإنشغال. وفقاً لفرويد (Freud)، يعود هذا الأمر إلى عدم قدرتنا على الربط بين الحنان والشهوة الجنسيّة: بسبب الحاجة إلى الربط بين الجنس والمحظور لدى النساء؛ وبسبب ضرورة الفصل بين الأم “الطاهرة” والعشيقة “العاهرة” لدى الرجال.

وفي كثير من الأحيان، نصل إلى هذا الوضع، أي أن نحبّ شخصين في الوقت نفسه عند حصول ثغرة في حياة الثنائي القائم مهما كانت بسيطة وبغضّ النظر إذا شعرنا بها أم لا.

الحبّ يُستهلك ويحتاج إلى صيانة وعناية وتجدّد؛ لم نهتم به بما فيه الكفاية، رغماً عنّا أحياناً. مع الوقت، إتّسعت المسافة التي تفصل بيننا وابتعد أحدنا عن الآخر. هذا الفراغ يُفسح في المجال أمام مشاعر عاطفية تجاه شخصٍ ثانٍ: هي مجرّد نزوة عابرة أو قد تكون قصة حبّ جميلة. كما أننا قد نُحبّ شخصين لأن الشابة أو الشاب الذي كنّا عليّه والذي كانت تنقصه الثقة بالنفس ومعرفة الذات، قد تغيّر. كبر وتخلّص رويداً رويداً من المحظورات، والمعوّقات، والعقبات، والممنوعات التي فرضها ماضيه وتاريخه الشخصي الفردي وتأثير الضغط العائلي عليه.

 

رأساً على عقب

أحاسيس متعدّدة تؤلّف شخصيتنا، فنحن نتقدّم ونتطوّر ونتغيّر مع مرور الوقت الذي بحكمه تتفتّح أوراق جديدة وتتساقط الأوراق القديمة؛ قصص جديدة تتبرعم وأخرى قديمة تنتهي. لدينا أحياناً قدرات وإمكانات لم نتمكّن من تطويرها وكان حبّنا يقوم على ما كنّا نكبته في اللاوعي. وعندما نتخلّص من أمور ومعوّقات كانت تردعنا ونتحرّر منها، نستعيد قدراتنا ونطوّرها. نجرّد الشريك الأول من أحادية هذه الحاجة غير المُشبعة التي كان يجسّدها ونكتشف لدينا توقعات وإمكانات جديدة ما يجعلنا قابلين ومستعدّين لعلاقة أخرى. رغم ذلك لا نريد خسارة ما بنيناه مع الشريك الأول وما نشعر به حياله؛ إنما نحن نصبح في اللحظة التي نحرّر فيها أنفسنا حاضرين لإفساح المجال أمام دخول شخص آخر في حياتنا والوقوع في حبّه.

نعيش حبّين: ثانيهما سحر وإفتتان وكمال ومثالية ورغبة، وأولهما رابط قائم يمنحنا الأمان وشيئاً من الرضى والإشباع.

عندما نعيش قصّة حبّ من أول نظرة، نُبالغ في تقدير الشخص الذي وقعنا في حبّه ونرفعه إلى أسمى الدرجات ونجد فيه صفات نعتقد أنها تُكملنا. فنجعل منه نسختنا النرجسيّة، بما معناه أننا نُجسّد فيه ما نريد أن نكون عليه. ولكن هذا ليس سوى تصوّر يتبدّد تدريجاً. وتظهر حقيقة الآخر رويداً رويداً. إمّا أن يكون الشخص بعيداً كل البعد عن هوّاماتنا ما يضع حداً لإفتتاننا به وتنتهي القصة، أو ينتابنا حياله شعور عقلاني ومترسّخ وهذا ما يُسمّى بالحب.

عندما نعتقد أننا نحبّ شخصين، تكون لدينا في الواقع رغبة في شخص واحد. ورغم ذلك، هذا لا يمنعنا من ممارسة الجنس مع كلاهما لأن شعلة الحبّ تبثّ فينا الحياة. نشعر وكأننا نستعيد جسدنا ونودّ مشاطرة هذه القوة: حقيقة كوننا شخصية جميلة وذكية وجديرة بالإهتمام. مع الشخص الذي لم يعد يُلهب أحساسينا ويُحرّكها، نحن تحت تأثير الحبّ الأول وهو رابط يؤجّج الرغبة فينا، ولكن ليس بالطريقة البدائية نفسها التي نشعر بها مع الآخر والتي تقلب حياتنا رأساً على عقب.

عموماً، عندما يقع شخصان في الحبّ، يكون أحدهما في خانة المتعة والإشباع أي الرضى، بينما يكون الآخر في خانة الرغبة التي تعوّض عن النقص العاطفي في اللاوعي. وهذا التناقض لا ينحصر فقط بالثنائي القائم بل بكل شخصين تربطهما علاقة. إذا إستمرّت هذه الحياة المزدوجة، تتلاقى كلتا الحالتين وتنتفي عندها إمكانات عيش قصتَيْ حبّ في الوقت نفسه.

عندما نحبّ شخصين ونعيش مع أحدهما، تتعقّد الأمور. يبقى الآخر حاضراً في ذهننا عندما نعود إلى إطار الثنائي القائم وتكون متعتنا أكبر. ولكّن هذا الوضع يخلق في الوقت عينه نوعاً من “الإزدحام” العاطفي ويُصبح من الصعب علينا إدارة حياتنا اليومية من دون معاناة وألم. نُربك أنفسنا ونحتار عندما نحبّ شخصين في الوقت نفسه. نُعقّد حياتنا. الحبّ لا يخضع لمنطق حسابي. المعضلة لا تكمن في البحث لدى شخص ثانٍ عن ما لا يملكه الشريك في الثنائي: نريد من جهة إرضاء الحاجات وإشباعها ونسعى من جهة أخرى وراء الهوامّات والمثالية. الحبّ لا يعني ملء فراغات في داخلنا. لا بل على العكس، يعيدنا الحبّ إلى تساؤلاتنا الشخصية الأوليّة. لذلك علينا حصره وليس العبث به. علينا إذاً الإختيار.

 

من أنا؟

نحبّ هذا الشخص الذي لديه الإجابة عن أول أسئلتنا: من أنا؟ الحبّ يعني الإقتناع بأن الآخر يساعدنا في اكتشاف حقيقة من نحن أو ما نحن عليه في الواقع. بما معناه أن حبّ الآخر لنا سيكشفنا ويُبرز كل ما هو إيجابي في شخصنا. المكوّنات الضرورية لولادة هذا الشعور متعدّدة ومن ضمنها: إضفاء المثالية، الإرتباط والتعلّق، عالم مشترك أبعد من مجرد التواصل بواسطة الكلمات، شعور عميق بالإمتنان الحاد، النماذج الأبوية، التخوّف من الهجر والنبذ وهو محرّك دافع قوي للغاية… ولكنّ المكوّن الأهم يبقى الرغبة. صحيح أن الجنس ليس بالضرورة كافٍ للحبّ ولكنه الأساس والمحور المفصلي فيه. الحبّ من دون جنس، أي الذي لا يترجم جسدياً وجنسياً، يكون فارغاً من داخله.

والحقّ يُقال، من منطلق التحليل النفسي، إزدواجية الحبّ تبقى خدعة نتخفّى وراءها هرباً من مصارحة الذات ولعدم الإعتراف بزوال شغف الحبّ الأول وبحاجتنا إلى الإحساس بإهتمام شخص آخر بنا يعيد الينا تقديرنا لذاتنا.

________________________________________

*إختصاصي في الصحّة النفسية والصحّة الجنسية

www.heavenhealthclinic.com

info@heavenhealthclinic.com

تعليقات

  1. لقد قرأة في الماضي الكثير من المقالات للدكتور بيارو كرم, في مواضيع مختلفه عن العلاقات العاطفيه بين المحبين… وأقول له ومن تجربتي الشخصيه في حبي الأول الفاشل بأن الحداد على علاقتي العاطفيه دام أكثر من عشرون عاماً ولم أستطع أستعادة طعم الحياة حتى الأن, بُعَيد الصدمة العاطفية وحزن الانفصال، ولم يحدث كما كتب بأننا نستعيد رويداً رويداً طعم الحياة والحبّ. حيث انعدام القدرة على تجاوز فقدان هذا الحبّ يعود إلى الرنين مع ماضٍ مؤلم. ما معناه أن الانفصال، سواء كان ذلك على الصعيد العاطفي أو المهني، يعيد تنشيط انفعالات الانفصالات السابقة التي عانينا منها، والأحزان التي لم نتجاوزها، والنقص الذي لم نتمكّن من سدّه. فنحن نعيش هذا الفشل في الحبّ كجرح نرجسي. فقدان الحبيب يؤدي إلى فقدان احترام وتقدير الذات، والشعور بأننا لا نستحق أن نحبّ، وغير مؤهلين للسعادة.
    أعجبني ما كتبه في موضوع الشجاعة للإنفصال :
    مشاعر متعددة تعترينا أمام الفشل
    الألم الناجم عن هذه المحنة المرتبطة بالهوية التي تتسبب بها الخيانة، لا يوصف، إذ تتناقض مشاعرنا ويعترينا احساس بالحزن، والغضب، والخوف من المستقبل والمجهول، والوحدة، والإرباك، وحتى الإحباط، فضلاً عن إنهيار مشاريعنا والوصول إلى الطريق المسدود.
    تعود ديمومة وبقاء الثنائي إلى مدى الحب والتفاهم الجنسي بين الشريكين. وللتخلّص من مفاعيل الخيانة، وعوض الخضوع للمحنة، من الأجدى إعتبارها فرصة لإعادة التفكير في الثنائي وفي المفهوم السائد عن الحب. إلاّ أنه وفي واقع الأمر، من الضروري إستعادة الثقة بعد الخيانة، وإن كان ذلك صعباً لأنّ شيئاً ما قد إنكسر. نحن قد نتناسى لكننا لا ننسى. قد نتخلّى عن المحاسبة لكننا لا نسامح.
    الخائن يشعر بضرورة الحصول على مسامحة الشريك فيما هذا الأخير يصاب بجرح نرجسي ويشعر بأن الخيانة تقلّل من قيمته، فهي بمثابة إهانة له. من هنا تبرز الحاجة إلى إعادة بناء وتوطيد أواصر الثقة. لن يتم ذلك من دون ألم ولا خلال أيام معدودة. فالخيانة تمسّ إحترام الذات والأنا، ولن يكون من الممكن إعادة اللحمة إلى الروابط الصحية والواضحة مع الشريك إلاّ من خلال تخطّي هذا الجرح، ما يعني تخطّي الذات وإن كان هذا الأمر لا يعني التضحية بالذات.
    البقاء أو المغادرة مسألة أساسية وجوهرية لاستمرارية الثنائي. خياران لا ثالث لهما لإيجاد حل لهذه المعضلة: يتّخذ الخائن قراراً بالتغيير ويمنح نفسه الوسائل للقيام بذلك ومن أهمها العلاج النفسي، وكما يحصل غالباً يكون الإنفصال هو الحلّ، أو إختيار وتفضيل البقاء من أجل الأولاد وهي ذريعة خاطئة وسيئة؛ فما هو النموذج والمثال الذي نطلب من أولادنا الإحتذاء به في حال قبلنا بهذا الوضع؟ يجب علينا فعلاً إحترام الذات واحترام أطفالنا.
    والأسوأ في جميع الأحوال هو الخضوع، أي تقبّل الوضع كما لو أنه محتوم. هذا لا يعني فقط الإستسلام في مواجهة الصدمة وإنما أيضاً يوضح المعنى الذي نعطيه لحياتنا وتقديرنا للذات. ومن جهة أخرى، خطر إنجرار الثنائي نحو لامبالاة عدائيّة هو أمر كارثي للغاية بالنسبة الى الذات والمحيط ولا سيما الأطفال الذين يعانون من هذا الجو السيئ.
    الإعتراف مسألة دقيقة وحرجة للغاية، وليس من قاعدة محدّدة تتّبع في هذا الشأن. فالقرار يعود الى الشخص المعني في نهاية المطاف وفقاً لاقتناعاته. بالإمكان إخبار الشريك، وقد يشكّل هذا الأمر مناسبة لفتح باب الحوار. ففي بعض الأحيان، تشكّل هذه المغامرات فرصةً لتعزيز الرابط الزوجي. إلاّ أنه في حال كانت مجرّد مغامرة، حتى لو كان الحب وطيداً بين الشريكين، بإمكاننا التفكير في عدم التحدّث عن الأمر فهذا أمر يتعلّق بالشخصية الفردية. تعود لكم حرية القيام بما ترتأونه مناسباً لما فيه مصلحة الثنائي. ولكن من واجبي التذكير بضرورة توخّي الحذر من الصراحة والشفافية لأن الإعتراف يترك مأساة لا تُمحى نتائجها.
    المغفرة شبه مستحيلة في حالة الخيانات المتعدّدة أو حين تكون قد دامت مطوّلاً. إلى جانب الألم الناجم عن الخيانة المتكرّرة، هناك الإهانة المترتّبة عن عدم إيجاد ما يكفي من الشجاعة للإنفصال.
    المغفرة لا تعني التصرّف وكأن شيئاً لم يكن، بل هي الإعتراف بالألم الذي نشعر به والتعبير عن هذا الألم للآخر. المغفرة ليست الإبراء والصفح، وإنما هي أمر واعٍ ومتعمّد يتطلّب الإرتقاء بالذات وتخطّي الأنا.
    الخيانة خرق للعقد الضمني بين الثنائي.

التعليقات مغلقة.

+ -
.