يحبس العالم أنفاسه فيما الأزمة تتفاقم في أوكرانيا، متخوفاً من تحولها إلى نزاع مسلح بين هذه الدولة وجارتها القوية روسيا، ولكنه يترقب أيضاً كيف ستؤثر الأزمة في اقتصاده، سواء احتُويَت أو انفجرت. وللأزمة السياسية جذور ضاربة في الموقع الإستراتيجي الذي تحلته أوكرانيا، فهي ممر مهم بين روسيا وأسواق أوروبية بارزة، وهي مصدّر أساسي للقمح على الصعيد العالمي.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تحولت أوكرانيا، التي كانت ثاني أهم اقتصاد في الكيان الشيوعي بعد روسيا، إلى اقتصاد ضعيف، وهي اليوم في حاجة ماسة إلى إنقاذ وحائرة بين منقذَين محتملَين، روسيا والاتحاد الأوروبي. وثمة أسباب تجعل الاقتصادات الكبرى في العالم تقلق مما يحدث في أوكرانيا.
صحيح أن أوكرانيا فقدت كثيراً من الأهمية الاقتصادية التي كانت لها سابقاً، ولكنها لا تزال تستفيد من موقعها الجغرافي، فروسيا تزود أوروبا بربع ما تحتاجه من غاز، ويمر نصف صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا عبر أوكرانيا. ولأن روسيا قطعت إمدادات الغاز عبر أوكرانيا خلال خلافات بين البلدين على رسوم العبور، يمكن لانقطاع جديد أن يرفع أسعار الغاز في شكل كبير بالنسبة للمستهلكين والأعمال في أوروبا.
ومع أن فرض الاقتصادات الـ 10 الأكبر في العالم عقوبات على بعضها بعضاً ليس أمراً مألوفاً في عالم ما بعد الحرب الباردة، تبدو الولايات المتحدة جدية في تهديدها روسيا بعقوبات في حال تدخلت عسكرياً في أوكرانيا. ويُرجَّح أن تكون روسيا قلقة من التهديد الأميركي فهي معتمدة على الاقتصاد العالمي أكثر منها قبل عقد من الزمن، خصوصاً إذا تلت العقوبات الأميركية عليها عقوبات أوروبية، فنصف التجارة الخارجية لروسيا تجري مع الاتحاد الأوروبي، وتعتمد روسيا على الاتحاد الأوروبي في استيراد المواد الاستهلاكية التي اعتاد الروس على شرائها منذ تبني بلادهم اقتصاد السوق. وإذ يبدو أن قمة مجموعة الثماني لن تجري في منتجع سوتشي الروسي، علقت الولايات المتحدة محادثات تتعلق بالتجارة والطاقة كانت مقررة مع روسيا.
وقد يتأثر العالم بالأزمة، خصوصاً إذا انقطعت صادرات أوكرانيا من القمح وإلى حد أقل الذرة، وقد ترتفع أسعار السلعتين بمجرد تفاقم التوتر وعدم وقوع حرب. وتفاقمت الانتفاضة الشعبية الأخيرة في أوكرانيا بعد قرار الحكومة المستقيلة وقف المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول اتفاق لتحرير التجارة بضغط من روسيا التي عرضت تخفيضات في أسعار الغاز المصدّر إلى أوكرانيا في حال وقعت الأخيرة اتفاقاً مع الاتحاد الجمركي الروسي.
وتقبع أوكرانيا تحت عبء ديون وتحتاج مساعدة. فثمة ديون بـ 13 بليون دولار تستحق هذا العام و16 بليوناً أخرى قبل نهاية 2015، وتتخوف مؤسسات مالية دولية من أن تفلس أوكرانيا في حال لم تحصل على دعم. وليس واضحاً من سيقدم الدعم بعدما جمدت روسيا عرضها المتضمن حزمة إنقاذ بـ 15 بليون دولار بعد سقوط الحكومة الموالية لها. ووعدت مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد بالعمل على تأمين 35 بليون دولار لأوكرانيا ولكن ما من شيء مؤكد.
وأوكرانيا من بين الاقتصادات الناشئة التي عانت اضطرابات بعد قرار مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي تقليص برنامجه للإنعاش النقدي، الأمر الذي شجع مستثمرين ماليين كثيرين إلى نقل أموال لهم من الاقتصادات الناشئة إلى الولايات المتحدة ودول غربية أخرى. ويُقدَّر أن المستثمرين الأجانب في أوكرانيا سينقلون مزيداً من أموالهم إلى دول أخرى بسبب المخاوف الأمنية المستجدة. ويمكن روسيا التي عانت تداعيات قرار مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي أن تعاني أكثر في حال تصدع اقتصاد أوكرانيا، فمصارفها قدمت قروضاً ضخمة لمؤسسات أوكرانية.
وبقي النمو الاقتصادي الأوكراني ضعيفاً في العامين الماضيين، لينتعش قليلاً في الربع الأخير من 2013، إذ حقق نسبة بلغت 3.7 في المئة على أساس سنوي، بفضل محاصيل جيدة، ولكن النمو للعام ككل لم يتجاوز صفراً في المئة، مقارنة بـ 0.2 في المئة في 2012. كذلك بقي أداء معظم القطاعات ضعيفاً بسبب ظروف خارجية وتأخيرات في إصلاح السياسات. وكان البنك الدولي توقع تحسناً في النمو خلال 2014، ولكن الأزمة المستجدة أطاحت الاحتمالات على الأرجح. وعانت أوكرانيا تباطؤ الطلب في الاتحاد الأوروبي الذي يخرج ببطء من أزمته، وتردد المستثمرين الماليين في شراء سندات الخزينة التي تصدرها كييف.
ويواجه نظام العناية الصحية الأوكراني مشاكل تجعل نسبة الوفيات في البلاد من بين الأعلى ليس فقط في أوروبا بل في العالم ككل. وزادت البطالة إلى 9.5 في المئة مطلع 2009 بسبب أزمة المال العالمية التي بدأت قبل أشهر. ولم تتراجع البطالة إلا إلى 7.5 في المئة حالياً. وفيما تفتقر الشركات الأوكرانية إلى يد عاملة ماهرة، يضطر كثيرون من الخريجين الجامعيين إلى تولي وظائف لا يستخدمون فيها ما كسبوه من مهارات.
ومع أن نسبة التعلم مرتفعة في أوكرانيا، وكذلك نـــسبـــة الالتــحاق بالمؤسسات التعليمية، لم تفلح المخصصات المالية الحكومية لقطاع التربية في تحسين نوعية التعليم. ومع أن أوكرانيا بلد زراعي غزير الإنتاج، يستطيع تأدية دور كبير في تعزيز الأمن الغذائي العالمي، تعاني الزراعة في البلاد من ضعف العائدات لأسباب من أهمها عدم تحديث وسائل الإنتاج بما يكفي. وثمة أوجه ضعف كبيرة في القوانين الناظمة لملكية الأراضي.