إسرائيل أكثر تديناً وعنصرية وعزلة وانغلاقاً

تعاني إسرائيل منذ إطلاق فكرتها خللا بنيويا صار، مع مرور الزمن ورغم النجاحات، خطرا يهدد وجودها. ويكمن هذا الخطر أساسا في العلاقة بين الدين والدولة في الدولة العبرية وتحديد هذه الدولة لهويتها. وليس أفصح من التعبير عن ذلك إصرار القيادات السياسية الإسرائيلية، خصوصا في اليمين الحاكم، على اعتبار اعتراف الفلسطينيين بـ «يهودية» الدولة العبرية شرطا لأي اتفاق سلام قد يبرم لاحقا.

ومن المعروف أن الحركة الصهيونية عموما، ورائدها بنيامين زئيف هرتسل خصوصا، انطلقت من موقع علماني مناهض غالبا لرجال الدين اليهود الذين كانوا طوروا فكرة انتظارية ل«العودة» وإقامة الدولة على أرض فلسطين. وبتعابير كثيرة كانت الدعوة الصهيونية رفضا للفكرة الدينية الأمر الذي أثار عليها، قبل غيرها، رجال الدين خصوصا من التيارات الأرثوذكسية الذين كانوا يحتكرون حق تعريف اليهودي.

وليس صدفة أن المفارقة الأساسية في الحركة الصهيونية كانت تكمن في كيفية التوفيق بين مناهضة الفكرة الدينية في إقامة الدولة وبين الاستناد إليها أيضا. إذ كيف لعلمانيين أن يرفضوا الفكرة الانتظارية من ناحية لكنهم يستندون إلى ما تعتبره «حق الهي» في سبيل الدعوة لإنشاء الوطن القومي. وتجلت المفارقة ذاتها في اختيار رجال الدين ممن كانوا يقيمون في مناطق ذات طبيعة دينية الابتعاد عن مناطق تجمع الصهاينة. والبعض يعتبر أن بين تجليات ذلك الراهنة تطور تل أبيب وتدين القدس. ومع ذلك فإن سيرورة الانتقال من مركزية تل أبيب إلى مركزية القدس تشرح السبل التي مرت بها الحركة الصهيونية والدولة العبرية من العلمانية إلى التدين.

وبديهي أن قراءة سريعة لدور الحركات الاشتراكية الصهيونية التي أخذت بالرؤى اليسارية أظهر أنها لعبت الدور الحاسم في الاستيطان وفي تشكيل النماذج الأساسية لاحتلال الأرض وبناء الاقتصاد وتكوين المجتمع. ولعبت الموشافات والكيبوتسات دورا جارفا في اجتذاب الشباب الصهيوني للعمل من ناحية وللتدرب على السلاح وتحقيق الحلم الصهيوني من ناحية أخرى. وتقريبا بقيت القوى الاشتراكية هذه تلعب الدور الأساس في قيادة المجتمع اليهودي «اليشوف» قبل إعلان الدولة وفي الدولة بعد قيامها حتى العام 1977. وبعدها بدأت مرحلة شراكة مع اليمين القومي والليبرالي. ولكن لم يكن خافيا على أحد أنه حتى عندما كانت إسرائيل في ذروة «اشتراكيتها» و«يساريتها» كانت قد أفردت للدين مكانة مميزة عبر ما عرف بسياسة «الأمر الواقع». وقضت سياسة الأمر الواقع هذه بأن تلتزم الدولة ومؤسساتها بالتقاليد الدينية اليهودية بما لا يقتصر فقط على حرمة يوم السبت وإنما الاحتفال بكل الأعياد الدينية الأخرى.

وكانت الأحزاب اليسارية، مباي ومبام، على مدى سنوات حكمها تقيم تحالفا «استراتيجيا» مع حزب «المتدينيين الوطنيين» الذي كان يعمل ك«حارس الحلال» في الحكومة من خلال سيطرته ليس فقط على وزارة الأديان وإنما أيضا في أغلب الوقت على وزارة التعليم. وليس صدفة أن إبعاد الأحزاب اليسارية عن الحكم وانطلاق تحالف اليمين القومي والديني أفسحا المجال لأوسع حالة تسييد للدين جعلته يتغلب حتى على المنطق والبراغماتية التي حكمت الحلبة السياسية الإسرائيلية داخليا. ومع مرور السنوات صارت الهوامش اليمينية الضيقة تنتقل لتحتل مركز الفعل السياسي داخل الأحزاب وفي الحلبة السياسية عموما. وهذا ما تجلى حاليا في مكانة حزب كـ«البيت اليهودي» و«إسرائيل بيتنا» والتي يحمل كل منهما أفكارا لا تختلف كثيرا عن أفكار جماعة «كاخ» برئاسة الحاخام مئير كهانا والذي أخرجتها إسرائيل عن القانون قبل حوالي عقدين من الزمان.

وتشير معظم الاستطلاعات في إسرائيل إلى أن أغلب الجمهور اليهودي صار يصنف نفسه كمتدين ولا يكتفي بذلك بل يتجه أكثر نحو اليمين. وقد أصابت هذه الظاهرة أحزابا كانت تعتبر حتى وقت قريب أحزابا يسارية متطرفة مثل حزب «ميرتس» الذي صار بعض نشطائه يطالب بالتعامل مع الدين ليس فقط من وجهة نظر اجتماعية وإنما أيضا من منطلق يهودي. وبديهي أن حال التدين هذا سيطر بشكل أوسع على الأحزاب الأخرى خاصة من تدعي العلمانية منها وبينها «هناك مستقبل» بقيادة يائير لبيد؟

ويشرح مقال نشر مؤخرا في «هآرتس» كيف أن العلمانية في إسرائيل مرت بتقلبات كثيرة وصولا إلى هذه المرحلة التي انتهى فيها تقريبا سريان مفعول العلمانية الليبرالية في التعليم والسياسة. إذ يشغل متدينون وخريجو مدارس دينية الآن مناصب رفيعة في كل الوزارات والمناصب العليا في الجيش. ويعترف مفكرون علمانيون بأن واقعا جديدا نشأ خصوصا بعد أن صار الأبناء يتنصلون من التراث العلماني لآبائهم. وتقريبا صار تعريف العلماني في إسرائيل الشخص الذي لا ينتمي إلى أحزاب دينية أو إلى أحزاب لا يلعب الدين فيها دورا مركزيا.

ومن هذا المنطلق لم يكن غريبا أن أحد رواد العلمانية في إسرائيل البروفيسور عوزي أرنون اصطدم بجدار المحكمة العليا التي رفضت التماسه بشطب تعبير «يهودي» من خانة القومية في بطاقة هويته واستبدالها بـ«إسرائيلي». وهذا ما قاد إلى المفارقة في أن إسرائيل لا تريد أن تعترف بـ«إسرائيلية» أي إسرائيلي لأن الأولوية هي للـ«يهودي» بما يعني من إقرار رسمي بخضوع الدولة للتعريف الديني. ولكن ما هو أهم من ذلك أن العلمانية تتراجع في إسرائيل أمام مظاهر الإكراه الديني والعرقي التي باتت تعتمد على سن قوانين تشجع على ذلك. ولهذا ليس صدفة أن تحاول هذه المقالة شرح الأسباب الحقيقية وراء اندفاع إسرائيل نحو العنصرية المقننة.

+ -
.