التصريحات التي أطلقها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، في أعقاب أحداث باريس، وتحدث خلالها عن معلومات في حوزة الاستخبارات الإسرائيلية عن مخططات لتفجيرات في أوروبا، وأخرى يدعي فيها توافر معلومات تربط خلايا «داعش» التي نفذت إسقاط الطائرة الروسية في سيناء بمنفذي التفجيرات في الضاحية الجنوبية لبيروت وبمنفذي عمليات باريس، هذه التصريحات لم تحظ بذلك الوهج الإعلامي في إسرائيل، كما توقع نتانياهو. فقد انتقلت أجندة الأجهزة الأمنية والاستخبارية إلى داخل بلدات فلسطينيي الـ 48 لتحقق وتنشغل في اتساع ظاهرة انضمام شباب منها إلى تنظيم «داعش»، بعد أن تجاوز عددهم الخمسين شاباً، معظمهم نجحوا في التفوق على قدرات الاستخبارات الإسرائيلية ومراقبتها الأمنية والوصول إلى سورية والانضمام لهذا التنظيم. بل إن أحدهم طار بمنطاد شراعي من الجولان المحتل وانتقل إلى الأراضي السورية، على رغم وجود القوات العسكرية المرابطة هناك بأعداد كبيرة. لكن هذا كله لم يمنع نتانياهو من التباهي بقدرات أجهزته الاستخبارية والتي وصلت إلى حد إعطاء «النصائح» لفرنسا وغيرها. لكنه عاد واعترف بأن إسرائيل غير محصنة بتاتاً من هذا التنظيم والخطر القريب من حدودها مع سورية قد يخترق بلداتها ويشكل خطراً على أمنها وفي مركز مدنها.
الحديث عن حوالى خمسين داعشياً من بين فلسطينيي الـ 48، هو رقم مرفق بأسماء حقيقية، ولكن تقارير استخبارية وأمنية تتحدث عن وجود أضعاف هذا العدد، ممن يدعمون فكرة «دولة الخلافة الإسلامية» وباتوا مركز اهتمام جهاز «الشاباك»، الذي خصص مجموعة لتعقبهم وكشفهم قبل تنفيذ مخططاتهم سواء داخل إسرائيل أم السفر إلى سورية لمساندة عناصر هذا التنظيم. وفي تقديرات العميد في الاحتياط نيتسان نورئيل الذي ترأس بين 2007 و2012 طاقم مكافحة الإرهاب في ديوان رئيس الحكومة، فإن عدد فلسطينيي الـ 48 «الذين تهب رياح داعش في صدورهم»، وفق تعبيره، يصل إلى آلاف عدة. ويقول: «إذا قمنا بصوغ الأمور في شكل فظ، فإن هؤلاء ممن ينهضون في الصباح ويفرحون حتى السماء بإنجازات داعش، وعندما تفشل داعش، يشعرون بالإحباط. هؤلاء الآلاف يسألون أنفسهم، كل يوم: هل أنا كفرد يمكنني مساعدة داعش؟». ويضيف نورئيل: «الشجعان من بينهم يقومون بعمل، وأما الآخرون فيدحرجون الأفكار في رؤوسهم. لكن المسافة بين الفكرة والتطبيق في هذا السياق، قصيرة جداً».
ويكشف نورئيل أن «الجهاز الأمني يعرف عادة عن أولئك الذين يخرجون من إسرائيل في شكل متأخر». ويقول: «إنهم يخرجون من هنا بذرائع شتى ومختلفة، لا سيما أنه لا يوجد ما يمنع خروجهم. لكنه يمكن منع عودتهم ويمكن اعتقالهم أثناء عودتهم. هؤلاء الناس يتغذون من الشبكات الاجتماعية ومن التحريض في المساجد وفي أماكن أخرى».
وفي ملفات «الشاباك» فإن هؤلاء منتشرون في مختلف البلدات والمناطق ويتواصلون عبر أجهزة الهاتف الذكية والحواسيب، فيتبادلون مواعظ مصورة ونصوصاً خطية وصوراً توثق ذبح الناس من قبل رجال «داعش». ولا يترددون في كتابة الشعارات المؤيدة للتنظيم ويرفعون أعلامه أو ما يشبهها. وفي واحد من التقارير الذي يتحدث فيه «الشاباك» عن نشاط هؤلاء، يذكر أن وجودهم يبرز في البلدة القديمة في القدس، وفي مسجد يقام قرب كنيسة البشارة في الناصرة وفي بلدات عربية أخرى في إسرائيل. وتشير التقارير الإسرائيلية أيضاً إلى رصد نشاط لحزب التحرير الإسلامي. وهو بحسب هذه التقارير يشبه «داعش» من حيث دعاويه، لكنه يتجنب الوسائل العنفية في نشاطه ويقصرها على الدعوة.
وبحسب ما تدونه ملفات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية عن هذا التنظيم، وفق ما نقل على لسان مسؤول أمني، فإن فكرة الدولة الفلسطينية غريبة عليه ونشاطه في إسرائيل بمثابة «داعش بقناع قانوني». الكثير من رجاله يسيرون على حافة الخط الفاصل بين حركتهم و»داعش». في إسرائيل لا تزال هذه الحركة قانونية، أما في دول كثيرة، كما في ألمانيا مثلاً، فقد تم حظرها.
نشطاء «داعش» يتفوقون على «الشاباك»
اللافت بين الشبان الذين انضموا وينضمون إلى تنظيم «داعش» أنهم بمعظمهم من الأكاديميين. المحامي علاء من الناصرة وثلاثة معلمين من حورة، هؤلاء تعقبهم «الشاباك» وبعد أن رصد معلومات حول انتمائهم إلى التنظيم، بينها معلومات عبر صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، تم اعتقالهم. وهناك طبيبان من النقب أحدهما من بلدة حورة، تخلى عن مهنة الطب للانضمام إلى «داعش»، وقد وصل إلى سورية للقتال مع التنظيم وقتل هناك شاب من بلدة عرعرة في النقب، أنهى دراسته الطبية في عمان وتعرف هناك إلى أيديولوجية «داعش»، ونشر على الفايسبوك تأييداً للتنظيم فاعتقله «الشاباك» وفرضت عليه المحكمة غرامة وحكماً بالعمل في خدمة الجمهور.
أما الممرض خليل من القدس الشرقية فقد سافر إلى إسطنبول ومنها إلى سورية، واعتقله «الشاباك» بعد عودته مع صديق آخر. وأيضاً مهران من الناصرة الذي سافر إلى تركيا والتقى هناك ثلاثة مواطنين عرب من يافة الناصرة وصلوا أيضاً للسفر إلى سورية والقتال في صفوف «داعش». وعاد مهران بعد إصابته في هجوم جوي، وتم اعتقاله. ولكن يبقى أبرز الشبان الذين انضموا إلى «داعش» نضال صلاح، من جلجولية، الذي وصل إلى سورية عبر الطائرة الشراعية التي اخترقت أجهزة الرقابة والرادارات الإسرائيلية كافة. فأجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية لم تتمكن من اكتشافه وعلمت بوصوله إلى سورية بعد أن تجاوز الحدود جنوب الجولان. نضال صلاح، وبحسب ما أعلن تقرير لـ «الشاباك»، انضم في سورية إلى تنظيم «شهداء اليرموك»، وهو تنظيم قريب من «داعش». وبعد تحقيقات بدأتها إسرائيل أخيراً، أي بعد تحقيق هدفه بالوصول إلى سورية، أعلنت أنه كان على علاقة مع مجموعة تضم ستة أشخاص من جلجولية (منطقة المثلث) خططوا للانضمام إلى «داعش» ويقودهم شخص يدعى جهاد، سبق وحارب مع «داعش» في سورية قبل عامين، وبعدها عاد إلى إسرائيل واعتقل لفترة قصيرة، وبعد إطلاق سراحه عمل على تشكيل خلية تضم ستة نشطاء أرادوا الخروج مثله إلى سورية.
المعلومات حول نضال صلاح حصل عليها «الشاباك» فقط عبر التحقيق مع الستة. وبحسب ما تحدث زملاء صلاح فانه استخدم المنطاد ليتجاوز اضطراره إلى الوصول إلى مطار بن غوريون الدولي واحتمال اعتقاله هناك. أما بقية أعضاء الخلية فقد خططوا للسفر جواً من إسرائيل إلى تركيا ومن هناك الدخول مشياً على الأقدام إلى شمال سورية. وهذا جانب، أشار بعض أمنيين، إلى انه يشكل فشلاً للاستخبارات ويثير القلق من هذه الظاهرة.
الكشف عن نشطاء «داعش» بين شباب الـ 48، أثار انتقادات واسعة لـ «الشاباك» والموساد واعتبرها البعض فشلاً كبيراً. فلو لم تكشف إسرائيل أن صلاح اجتاز الحدود، لربما لم يكن بالإمكان منع خروج أعضاء الخلية إلى سورية، وربما قام البعض بتنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيلية، كما تناقلت وسائل إعلام إسرائيلية نقلاً عن مسؤول أمني قال:» المشكلة الأساسية ليست أن السبعة أرادوا الذهاب إلى سورية، بل المسار ذو الاتجاهين بين سورية وإسرائيل. والسؤال، أضاف هذا المسؤول: «عندما تتغير الأولويات عند داعش، هل سيتبين انه تم عمل ما يكفي من اجل منع خلية كهذه من العودة إلى إسرائيل وتنفيذ العمليات كما حدث في باريس»؟
الحدود السورية قنبلة موقوتة
حتى سقوط آخر صاروخ على الجولان، اثر المواجهات التي تشهدها مناطق الحدود السورية مع إسرائيل، لم تكن لإسرائيل مشكلة مع وجود «داعش» في الجولان ولم ترد على سقوط أي من الصواريخ. ولكن الأبحاث الأمنية الإسرائيلية اتجهت نحو مسار آخر، خصوصاً بعد أحداث باريس وبعد المعلومات التي أشارت إلى حادثة تفجير بين صفوف «داعش» وقعت أواسط الشهر الجاري في مثلث الحدود بين إسرائيل وسورية والأردن. وبحسب هذه المعلومات فان تنظيم «داعش» الموجود في النقطة الأقرب إلى إسرائيل في الجولان السوري تعرض لضربة قاتلة وفقد بضربة واحدة جميع القادة هناك.
والادعاء هو أن انتحارياً ينتمي إلى تنظيم معادٍ دخل إلى اجتماع لهيئة أركان تنظيم «شهداء اليرموك» الموالي لـ «داعش» ويعمل باسمها، وفجر نفسه مع جميع المتواجدين في الغرفة. هذه المجموعة «شهداء اليرموك»، تضم 700 شخص. وبتقدير الأجهزة الأمنية الإسرائيلية فان طرفاً من هذه الأطراف قرر التخلص منهم. ومع ذلك، يقول تقرير إسرائيلي تناقلته وسائل الإعلام العبرية إن مجرد وجودهم هناك خلق توتراً دائماً وتحذيراً دائماً، ليس فقط لإسرائيل بل للأردن أيضاً. ويحاول رجال الاستخبارات الآن فهم ما إذا كان انتقال «داعش» من عمليات «الذئاب الوحيدة» في أوروبا، على شاكلة العمليات ضد «شارلي ايبدو» وسوبرماركت «كشير» في كانون الثاني الماضي، إلى عمليات كبيرة منظمة، ينبع من فشل قوات التحالف في العراق وسورية. والاستنتاج الذي يتبلور في إسرائيل أيضاً، بحسب التقرير الإسرائيلي، هو أنه لا توجد صلة. فالفشل التكتيكي في الميدان لا يُحدث أي تغييرات استراتيجية لدى هذا التنظيم.
وفي التقديرات الاسرائيلية أيضاً فان التسجيل الذي بثه تنظيم «داعش» قبل بضعة أسابيع بالعبرية ويهدد فيه إسرائيل جاء فقط بعد قيام الزهيري، زعيم التنظيم المنافس، بمهاجمة البغدادي واتهامه بإهمال القضية الفلسطينية. وفي إسرائيل يتوقعون أن هؤلاء سيصلون إليها ولكن ليس في هذه المرحلة، وإنما في المرحلة الأخيرة لـ»إقامة الخلافة».
وفي هذه المرحلة لا تحاول إسرائيل، وفق ما يقول الخبير العسكري عاموس هرئيل، الاندفاع إلى القاطرة التي تقود الجهود ضد «داعش»، وإنما تكتفي بتقديم المعلومات الاستخبارية والاستشارة في مسائل الحماية. لكن هناك تأثيرات للمعركة التي تشهد اتساعاً الآن، ويضيف: «لقد أبعدت داعش الصراع مع الفلسطينيين عن سلم الاهتمام الدولي، وهي تعزز مكانة إيران في معسكر الأخيار، ظاهراً، لأن تنظيم داعش هو عدو للإيرانيين، أيضاً، ولأن التركيز على داعش يقلل من الضغط لإسقاط نظام الأسد، حليف طهران».
وفي آخر تقارير الاستخبارات الإسرائيلية فان التقديرات بأن وجود «حزب الله» في سورية وحربه إلى جانب الجيش السوري أديا إلى تآكل قواته وهو أمر، وفق الإسرائيليين، يساهم في تخفيض منسوب صراع الحزب مع إسرائيل ما يستدعي استغلال هذا الوقت لتعزيز القدرات الدفاعية في الشمال. وفي الأشهر الأخيرة تم تنفيذ أعمال هندسية واسعة في الكثير من الجيوب الواقعة إلى الشمال من السياج الحدودي، وجنوب الخط الأزرق، على الحدود بين إسرائيل ولبنان. وفي أماكن عدة يشخص فيها الجيش مسار تسلل ممكن بحماية مسارات الوديان العميقة والنباتات البرية الشائكة، يجري بناء منحدرات اصطناعية يصعب تسلقها للوصول إلى السياج، وتعيق الوصول إليها. كما تم القيام بخطوات أخرى يفترض فيها توفير السيطرة الأفضل في الرقابة وإطلاق النار على نقاط الضعف في السياج الحدودي، بحسب ما نشر من تقارير للأجهزة الأمنية الإسرائيلية.