(الاحتفال السنوي ب”استقلال إسرائيل” في فيتنام، التي كانت ثورتها منارة يهتدي بها ثوار فلسطين من أجل التحرر وتقرير المصير، قد يكون هو المثال الأبرز على الحصاد الدبلوماسي المر لاستراتيجية التفاوض الفلسطينية)
بقلم نقولا ناصر*
لقد كان رئيس وزراء كندا ستيفن هاربر خلال زيارته الأخيرة لدولة الاحتلال الاسرائيلي إسرائيليا أكثر من الإسرائيليين، ومن المؤكد أن بضع عشرات ملايين الدولارات التي تقدمها بلاده كمساعدة للسلطة الفلسطينية في رام الله ليست ثمنا كافيا للصمت الفلسطيني الرسمي على التصريحات العنصرية والاستفزازية والمهينة للشعب الفلسطيني التي أطلقها خلال زيارته ولا على انحيازها السافر لدولة الاحتلال منذ تولى مقاليد الحكم فيها، وهي تصريحات وهو انحياز جديران بإغلاق كل الأبواب الفلسطينية في وجهه.
لكن استقبال الرئيس الفلسطيني محمود عباس له كان مناسبة تذكر من ناحية بالإرث الكارثي الذي تركته الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين دولة الاحتلال على المكانة الدولية للقضية الفلسطينية ولممثلها “الشرعي والوحيد”، وتذكر من ناحية ثانية بالعلاقات الدولية الاستراتيجية التي جنتها دولة الاحتلال من توقيع تلك الاتفاقيات، وتذكر من ناحية ثالثة بقول الشاعر: “من يهن يسهل الهوان عليه”!
إن إعلان السنة الحالية 2014 عاما لتضامن الأمم المتحدة مع الشعب الفلسطيني، وتأييد 138 دولة لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67/19 بمنح فلسطين صفة دولة غير عضو فيها في 29/11/2012، في ذات التاريخ الذي تعتمده المنظمة الأممية يوما سنويا للتضامن مع عرب فلسطين، وقول الرئيس عباس في العام السابق إن 128 دولة كانت تعترف بدولة فلسطين، إنما هي حقائق لا يمكن إغفالها أو عدم تقدير الشعب الفلسطيني لها ولأصحابها.
لكنها حقائق ترسم صورة زاهية للتضامن الدولي مع فلسطين تخفي الفشل الدبلوماسي الذريع الذي تمخض عن استراتيجية التفاوض التي يلتزم بها مفاوض المنظمة منذ انعقاد مؤتمر مدريد عام 1991 والاتفاقيات التي وقعتها المنظمة بعده مع دولة الاحتلال.
فهذه الاستراتيجية لم تسقط المقاومة الوطنية لدولة الاحتلال فحسب، ولم تسقط المقاطعة الاقتصادية والدبلوماسية العربية لها فقط، بل أسقطت المقاطعة الدبلوماسية والسياسية الدولية لها كذلك، ليبلغ عدد الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع دولة الاحتلال الآن (157) دولة، منها دولتان عربيتان هما الأردن ومصر، ناهيك عن علاقات التمثيل التجاري والاتصالات الدبلوماسية غير الرسمية مع دول عربية عديدة أخرى.
والممثل “الشرعي والوحيد” لعرب فلسطين لم يعد يخيّر دول العالم بين علاقاتها مع ستة ملايين “إسرائيلي” وبين علاقاتها مع مليار ونصف المليار مسلم وعربي، ولم يعد موقف هذه الدول من دولة الاحتلال هو الذي يحدد علاقاتها مع فلسطين والدول العربية، بعد أن أعفاها مفاوض المنظمة من خيار صعب كهذا، من دون إغفال العوامل الأخرى الذاتية والموضوعية والمتغيرات الدولية المساهمة في ذلك طبعا.
وتثبت العلاقات الإسرائيلية المتنامية مع القارة الآسيوية ودولها الصاعدة بخاصة في الهند والصين أن انخراط منظمة التحرير في ما سمي “عملية السلام” قد أدخل دولة الاحتلال إلى آسيا من البوابة الفلسطينية.
والملاحظ أن الصين والهند مثلا لم تقيما علاقات دبلوماسية مع دولة الاحتلال إلا عام 1992، أي في السنة التالية لمؤتمر مدريد، ومثلهما فعلت الجمهورية السوفياتية السابقة كازاخستان، لتلحق بها عام ألفين دولة صديقة للشعب الفلسطيني مثل سريلانكا، على سبيل المثال.
لكن الاحتفال السنوي ب”استقلال إسرائيل” في فنوم بنه، عاصمة فيتنام، التي كانت ثورتها منارة يهتدي بها ثوار فلسطين من أجل التحرر والحرية وتقرير المصير، قد يكون هو المثال الأبرز على الحصاد الدبلوماسي المر لاستراتيجية التفاوض الفلسطينية.
فهل يعود مستغربا أن تتبجح بعد ذلك سفيرة دولة الاحتلال السابقة في تايلاند يائيل روبنشتاين بالقول إن “إسرائيل جزء من آسيا. نحن ننتمي إلى آسيا وننظر إلى آسيا كبيتنا” (فنوم بنه بوست في 3/7/2009)؟!
لقد حققت دولة الاحتلال من توقيع تلك الاتفاقيات انجازين استراتيجيين، الأول استعمارها الاستيطاني على الأرض الذي حظي وما زال بتغطية إعلامية واسعة، لكن الإنجاز الدبلوماسي الذي حققته بفتح أبواب القارتين الافريقية والآسيوية على مصاريعها أمامها ما زال مغيبا عن وعي الرأي العام الفلسطيني والعربي والعالمي بالرغم من كونه أبعد وأعمق أثرا في دعم الاحتلال ودولته واستيطانه.
فعلى سبيل المثال، لقد أصبح حجم التبادل الاقتصادي والدفاعي بين دولة الاحتلال وبين الهند والصين وغيرهما من الدول الاسيوية يعود عليها بدعم مالي يكاد يعادل ما يقدمه لها راعيها الاستراتيجي الأميركي.
ففي العشرين من الشهر الجاري، ذكرت دائرة الإحصاء المركزية في دولة الاحتلال أن صادراتها إلى آسيا ارتفعت بمعدل (21%) من إجمالي صادراتها عام 2013 الماضي، أي أقل بواحد في المائة فقط من صادراتها إلى الولايات المتحدة. وفي سنة 2012 السابقة أصبحت الصين ثاني أكبر سوق أجنبي لدولة الاحتلال بعد الولايات المتحدة، وخلال النصف الأول من العام الماضي بلغ حجم التبادل التجاري الصيني مع دولة الاحتلال (10) بلايين دولار أميركي.
والعلاقات الهندية مع دولة الاحتلال اليوم “تشجع تعاونهما الاستراتيجي” كما كتب خلال الشهر الحالي د. يتسحاق جيربيرج الدبلوماسي السابق والأستاذ بجامعة حيفا في مجلة “دبلوماسي & فورين أفيرز” الهندية، التي تقرؤها النخبة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية في الهند. فالهند اليوم هي أكبر مشتر للأسلحة من دولة الاحتلال، وأكبر شريك عسكري لها، وأكبر شريك اقتصادي لها في آسيا بعد روسيا، وهذه “الشراكة” لا بد لها إن عاجلا او آجلا أن تحيّد، أو في الأقل أن تنعكس سلبا على، استمرار دعمها السياسي الرسمي والشعبي الثابت للشعب الفلسطيني.
لقد وصف القرن التاسع عشر بالقرن البريطاني الذي هيمنت فيه الامبراطورية التي لم تكن تغيب الشمس عن مستعمراتها، ووصف القرن العشرين بالقرن الأميركي الذي ورثت فيه امبريالية الولايات المتحدة الاستعمار البريطاني في الهيمنة العالمية، واليوم يوصف القرن الحادي والعشرين بالقرن الآسيوي أو بالقرن الصيني كونه يشهد صعود الصين والهند وروسيا كأقطاب عالمية في صنع القرار الدولي.
وفي القرون الثلاثة نجحت الحركة الصهيونية ثم ثم دولة الاحتلال التي أقامتها على حطام فلسطين وعربها في التعلق الطفيلي بأذيال القوى العظمى التي هيمنت عليها وسخرتها لخدمة مشروعها الاستعماري الاستيطاني في مركز الفصل بين مشرق الوطن العربي وبين مغربه، وكل الحقائق الراهنة تشير إلى أنها تكاد أن تكرر في “القرن الآسيوي” ما فعلته في سابقيه.
فهي تكاد أن تنجح في ذلك بمساعدة حيوية من استراتيجية التفاوض الفلسطينية، لتتحول “حقائق” التضامن الدولي المشار إليها إلى مجرد مظاهر لفظية للتضامن لا ترقى أبدا إلى علاقات دولة الاحتلال الاقتصادية والدفاعية والتكنولوجية المتنامية بتسارع لن يمضي وقت طويل قبل أن تتحول إلى علاقات استراتيجية مع قوى عظمى صاعدة في آسيا، بخاصة الهند والصين.
وقد كانت مفارقة ذات دلالة حقا أن يعلن الرئيس عباس في جنوب إفريقيا خلال مشاركته مؤخرا في جنازة الزعيم الراحل نلسون مانديلا انه “لا نطلب من أحد مقاطعة إسرائيل” لأنه “لدينا اعتراف متبادل معها”في ذات الوقت تقريبا الذي دعت فيه “جمعية الدراسات الأميركية”، وهي الأقدم والأكبر في بلادها وتضم خمسة آلاف مؤرخ وباحث واكاديمي ومثقف، إلى مقاطعة الجامعات ومراكز الأبحاث في دولة الاحتلال.
لقد كانت القارة الآسيوية حاضنة وداعمة تقليدية لفلسطين وشعبها وثورته المعاصرة قبل أن يعطيها مفاوض المنظمة ضوءا أخضر فلسطينيا يعفيها من موقف يمكن أن تكون فيه فلسطينية أكثر من “الممثل الشرعي والوحيد” للفلسطينيين في علاقاتها مع دولة الاحتلال، أو متضامنة أكثر من العرب مع أشقائهم في فلسطين.
ومفاوض المنظمة يفاوض اليوم وهو مجرد من سلاح المقاومة باختياره، وارتهانه للمظلة العربية لمفاوضاته قد حول هذه المظلة إلى سلاح للضغط عليه لا على دولة الاحتلال وداعميها، وبالرغم من رهانه على “تضامن ” المجتمع الدولي، فإن إسقاطه لسلاح “المقاطعة” الدولية لدولة الاحتلال جرده من هذا السلاح كذلك.
_________________________________
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com