احتراما للعقل والعدالة

= تمر على الناس، أفرادا، ومجموعات بشرية، حالاتٌ شتى من الألفة والتـباعد، ومن الصداقة والعداء.

= وفي الفترات الصعبة من حياة الناس – ومنها حالات النزاع والقتال – تتراجع قيم الألفة والصداقة والتسامح ، وتنمو مظاهر التعصب الأعمى ، وإلغاء الآخر ، وعدم قبول رأيه ، والتقوقع على الذات ، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة ، وتتراجع قيمة العقل والتفكير العقلاني أمام الإحساس بغرور القوة … وعندما يصاب الإنسان بالغرور ، يصبح أعمىً ، لا يرى سوى نفسه و أوهامه ، وهنا يبدأ الضّرر على الذات وعلى الآخرين وعلى البلاد .

= إن الأساس في حياة البشر، هو الاستقرار، والتآلف، والتوازن، وهذا يوفُـر الازدهار والتقدم…. والحروب – مهما طالت – هي الاستثناء …. واستقراء التاريخ يوضح لنا أن جميع النزاعات انتهت على طاولة المفاوضات ، التي هي العمل السياسي العقلاني لحل الصراعات.

= وفي الموروث الفكري، والديني، نجد أن الأساس في الحضارة البشرية، هو قوة العقل البشري، والإبداع، والاستقرار، وأن تعيش جميع مكونات الناس بانسجام مع بعضها، وأن يديروا الاختلاف بينهم بطريقة حضارية..

= وفي موروثنا العربي الإسلامي ، كان دائما: (الصلح هو سيد الأحكام)، وهذا ما أكده القرآن الكريم بقوله: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) سورة الحجرات الآية 13.

= فالتعارف والوداد هما الأساس بين البشر ، وقد أقرّ القرآن الكريم حقّ الاختلاف في الدين والرأي قائلا: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ). سورة هود الآية 118 ، وأيضا قوله: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَال). سورة الرعد الآية 17 . إذاً ، فالأساس فيما يجب أن يسود هو منفعة الناس ، وهذا ما أكّده الإمام البوصيري بقوله: (حيثما تكون مصلحة الناس ، فهنالك شرع الله) .

= وقد أكد القرآن الكريم على الحرية الفكرية، وعلى حرية الإيمان بقوله: (لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) سورة الرعد الآية 31 ، والله سبحانه وتعالى، حدّد للرسول الكريم مهمته، بأنها تنحصر في الدعوة إلى الله ، ولم يسمح له بفرض الرأي والسيطرة على الناس بقوله: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) سورة الغاشية 21-22

= وقد احترم القرآن الأديان السماوية …. ونكتفي بالقيمة الكبيرة التي أعطاها للسيدة مريم أم السيد المسيح عليه السلام بقوله: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) سورة آل عمران 42 .

= وفي السُّنة النبوية الشريفة الكثير من الأمثلة ومنها: (أن النبيّ(ص) مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي؟ فقال: (أليست نفسا؟؟) ) صحيح البخاري حديث رقم 1311 . ثم أمرهم أن يقفوا للجنازة احتراماً .

= وفي حديث آخر: (نعى رسول الله (ص) النجاشيّ في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم(أي أصحابه) إلى المصلى، فصف بهم، وكبّر عليه أربع تكبيرات) صحيح البخاري حديث رقم 1333. وهذا مثال رائع على الإنسانية واحترام الآخر المختلف … إنها سابقة تاريخية إنسانية كبيرة أن يؤدي رسول المسلمين صلاة الجنازة مع أصحابه، على ملك الحبشة المسيحي !!

= وكذلك أيضا ،” العهد”الذي أعطاه الرسول (ص) لمسيحيّي نجران في الجزيرة العربية… وهو وثيقة رائعة في احترام الآخرين ، ومن فقراته، أنه وعدهم: (( أولا: أن أحمي جانبهم، وأَذبَّ عنهم، وعن كنائِسهم وبِـيَعهم . ثانيا: أن أحرس دينهم ومِلّتهم ، أين كانوا من برٍ أو بحرٍ، شرقاً وغرباً ، بما أحفظُ به نفسي وخاصّتي ، وأهلَ الإسلام من ملّتي))… وهي وثيقة عظيمة يصعب اختصارها .

= وقد اقتدى بها الخليفة عمر بن الخطاب في” العُهدة العُمرية”بعد فتح القدس ، حيث تعهّد للمسيحيين ولأهل القدس أنه: (أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكُنُسهم وصُلبانهم …ولا يُكرهون على دينهم، ولا ُيضارّ أحدٌ منهم)… وهي وثيقة رائعة.

= وعندما دعا بطريرك القدس – صَفرونيوس – الخليفةََ عمر للصلاة في كنيسة القيامة – وهي أعظم الأماكن المسيحية المقدسة في العالم – أعتذر الخليفة ،خشية أن يحولها المسلمون إلى مسجد ، وصلّى إلى الجنوب منها قليلا حيث يقوم مسجد عمر الآن … وعندما وجد أن الطوائف المسيحية مختلفة على مُلكية أجزاء من كنيسة القيامة، أعطى مفاتيحها لصحابيّ يرافقه، وأمره بفتح بابها صباحا و إغلاقه مساءً ، ولا يزال المفتاح حتى الآن في عُهدة المسلمين، وهم الآن: /آل نُسيبة/ ، من عائلات القدس وفلسطين المعروفة .

= والتاريخ العربي الإسلامي يحفل بالأمثلة العديدة على سعة الأفق واحترام الآخر المختلف: فقد كان الكثير من أطباء الخلفاء ووزرائهم من غير المسلمين، وكان الخليفة هارون الرشيد -عندما يخرج إلى البادية- ينزل في الأديرة بضيافة الرهبان .

= والمسيحية أيضا حضّت على تقبُـل الآخر المختلف، وركزت على العدل… فقد قال السيد المسيح عليه السلام مخاطبا الفرّيسيين وهو يحذّرهم ، قائلا لهم: ( تُهملون العدل ومحبة الله!!) إنجيل لوقا 11/42.. وأيضا قوله: (افعلوا للناس ما أردتم أن يفعله الناسُ لكم، هذه هي خلاصة الشريعة وكلام الأنبياء ) إنجيل متّى 7/12، وأيضا قوله: ( من أراد أن يكون كبيرا فيكم ، فليكن لكم خادماً ، ومن أراد أن يكون الأول فيكم ، فليكن لأجمَعكم عبدا ) إنجيل مرقس 10/43 .

= وعن التسامح قال لتلميذه بطرس عندما سأله، هل يغفر لأخيه سبع مرات قبل أن يعاقبه ويحاسبه، فأجابه السيد المسيح قائلا: ( لا أقول لك سبع مرات، بل سبعا وسبعين.. ) والمقصود هنا ليس العدد بالضبط ، بل فكرة التسامح العالية.

= وفي العصر الحاضر، الأمثلة عديدة على هذا التسامح والمودة ، ومن آخرها ما جرى في مصر في الأحداث الأخيرة المؤسفة، قبل أسابيع حيث أحرق بعض المتطرفين الجَهَلة من المسلمين كنائسَ للأقباط ، فرد عليهم أحد الأقباط قائلا: ( إذا أحرقتم كنيستنا فسوف نذهب إلى الجامع لنقيم صلاتنا !!) … ومثال آخر في مدينة /إِبردين/ في اسكتلندا ، حيث تفتح كنيسة القديس يوحنا الأسقفية أبوابها كل جمعة ليصلّي المسلمون فيها ،لأن مسجدهم القريب صغير، ولا يتسع لهم لأداء صلاة الجمعة … وهذا كله تأكيد على روحية المحبة والتسامح، التي هي جوهر الأديان والعقائد الإنسانية…، وقد عبّر عن هذا المضمون الشاعر أحمد شوقي قائلا:

الدِّينُ للدَّيّانِ جلَّ جلالُه …….. لو شاءَ ربُّكَ وَحَّدَ الأَقواما

= إن القاعدة الصّلبة للعلاقات بين الناس، هي الـوُد والاحترام ، وما فترات التنابذ والعداء،إلا فترات قليلة عابرة، ولا يجوز القياس عليها وتعميمها ، وتزول بزوال أسبابها ، وهي الاستثناء وليست القاعدة … فالحالة الطبيعية للبحر والرياح،هي الهدوء ، والعواصف هي الاستثناء … فلا يجوز ، ولا يصح ، الحكم على الجماعات والشعوب بأحكام نهائية ودائمة ، وهي في حالة استثنائية من النزاع ، لأن تلك الأحكام غير صحيحة ، وهذا ما يقتضيه العقل و العدل، اللذان تجسدا في تاريخ البشرية بالأنظمة والقوانين والدساتير الديمقراطية ، وبِشرعة حقوق الإنسان ، وبالموروث الديني والحضاري الذي عرضنا نماذج منه … فالاستقرار و الازدهار ، لا يمكن بناؤهما إلا على أُسس العدالة والحرية ، وعلى إزالة الأسباب التي جعلت الناس تشعر بالغُبن والجور .. فأنت لا يمكن أن تُقنع مظلوما بالعدالة، ما لم ترفع عنه الظلم…

= إننا في أوقات الشدّة، نتطلع إلى نور العقل، والعدالة، والتسامح، والألفة، لإنارة ظلام التشنّج، والصراع ، والمآسي الناجمة عنهما… فكلما اشتد الظلام، كلما اشتدت الحاجة إلى النور، وكما قال الشاعر:

سَيَذْكُرُنـي قـومـي إذا جَــدَّ جِـدُّهُـم
وفــي اللّيـلـةِ الظَّلْـمـاءِ يُفْتَـقَـدُ الـبَـدْرُ
+ -
.