كان من المتوقع أن يسعى الغرب إلى الثأر من روسيا التي منعته من الاستيلاء على سوريا. سيكون من السذاجة القول إن روسيا لم تكن تنتظر انتقاما غربيا. لا بسبب سوريا وحدها، بل بسبب كل ما فعله الرئيس الروسي بوتين من أجل اعادة بلاده إلى الواجهة، وانهاء الحقبة التاريخية البغيضة التي تميزت بهيمنة القطب الواحد، ممثلا بالولايات المتحدة التي صارت تتزعم العالم الغربي في مواجهة الآخرين، بل وفرض خياراتها السياسية والعسكرية على القارة الاوروبية نفسها.
لقد نجح بوتين في اختراق الجمود السياسي الذي عاشه العالم ابان حقبة، تفردت فيها الولايات المتحدة بالقرار. وما لا يمكن انكاره في هذا المجال أن المانيا بزعامة المستشارة ميركل قد سعت من جهتها إلى أن تعيد إلى أوروبا مكانتها في المعادلة السياسية العالمية، من خلال ميلها إلى الاستقلال بقراراتها وعدم الخضوع الكلي للارادة الاميركية. غير أن المانيا تظل جزءا أساسيا من المنظومة السياسية الغربية وهي لذلك كانت تحذر من الانزلاق إلى الموقع الذي تظهر من خلاله كما لو أنها انتقلت إلى الضفة الأخرى.
روسيا هي غير ألمانيا في كل شيء.
فالاتحاد الروسي في ظل حكم الرئيس بوتين كان قد حرص على أن يكون وريثا حقيقيا للاتحاد السوفيتي، إن على مستوى علاقته بالجمهوريات السوفييتية السابقة أو على مستوى علاقته بالعالم الخارجي.
بالنسبة للروس كان ضروريا أن يُعاد انتاج الاتحاد السوفييتي، لكن في سياق تاريخي متغير، يأخذ في نظر الاعتبار ما شهدته الجمهوريات المستقلة من تحولات، بعضها كان ديمقراطيا خلال ربع القرن الماضي. لم تكن اعادة ضم تلك الجمهوريات في كيان سياسي واحد فكرة واردة، فهي فكرة ليست عملية، بل وثقيلة الوطء على روسيا نفسها. غير ان الاتفاقيات الثنائية التي أبرمتها روسيا مع تلك الدول المستقلة كانت كفيلة بإحياء حلم التكامل الاقتصادي، بما يمهد لبناء قاعدة، من شأنها أن تكون أساسا للتكامل السياسي.
تاريخيا وجغرافيا فان أوكرانيا كانت ولا تزال تقع في قلب ذلك التكامل.
وإذا ما عرفنا أن الجزء الشرقي من اوكرانيا (شبه جزيرة القرم) كان روسياً دائما ولم يجر ضمه إلى أراضي اوكرانيا إلا في من قبل الرئيس السوفييتي خروتشوف (اوكراني الاصل) عام 1964، ولم يكن ذلك الضم ليؤثر في شيء أثناء وجود الاتحاد السوفييتي، يمكننا تقدير حجم الضرر الذي يمكن أن تلحقه الضربة الغربية بالاتحاد الروسي.
هل توقع الغرب أن تقف روسيا مكتوفة الايدي وهي ترى جزءا من رصيدها المستقبلي يُقتطع منها، لينضم بيسر انقلابي إلى الغرب؟
ما نعرفه من معلومات عن الاهمية الاستراتيجية التي تشكلها أوكرانيا بالنسبة لروسيا يعرف الغرب أضعافها. ما كان مؤكدا أن روسيا لن تسكت على عدوان يجري على أراض، تعتبرها جزءا من نصيبها التاريخي والجغرافي. لن يكون من السهل القفز على حقيقة أن شبه جزيرة القرم وهي مركز الثروة في اوكرانيا هي منطقة ذات غالبية روسية. لذلك سيكون انفصالها عن أوكرانيا نوعا طبيعيا من رد الفعل.
من غير حرب تمكن اعادة ذلك الجزء إلى روسيا وليذهب الجزء الغربي بفقره إلى الاتحاد الاوروبي.
هل كانت مغامرة الغرب في أوكرانيا غير محسوبة النتائج؟
هناك كما أرى لعب بمصائر الشعوب من أجل تحقيق انتصارات وهمية.
فروسيا التي صارت ترى الاعداء واقفين عند بابها، سيكون متوقعا منها من وجهة نظر الغرب أن تتنازل له عن الملف السوري. غير أن شيئا من هذا القبيل لن يقع، على الاقل أثناء ولاية الرئيس بوتين.
كان رد الفعل الروسي واضحا في عدم تخليه على الأقل عن شبه جزيرة القرم، وهو يعرف أن ذلك الاجراء سيكون ممره إلى الاحتفاظ بكامل التراب الاوكراني جزءا من إرثه التاريخي والجغرافي.
اما الغرب فانه سيجد تسلية في ارهاق الدب الروسي.