استسلام الدماغ لإغواء الشاشات سرّه في المراهقة

في كتابه الذائع الصيت «الدماغ الذي يعيد بناء نفسه»، نقل الأميركي نورمان دويدج، وهو اختصاصي في الدماغ، رأياً وصفه بـ «الشائع في أوساط الطب النفسي»، مفاده أن الأجيال الشابة الأميركيّة باتت تعاني من انتشار أعراض تشبه مرض التوحّد («أوتيزم» Autism)، بطريقة شبه وبائيّة. «إنه انتشار وبائي لأعراض التوحّد»، وفق كلمات إلى ذلك الحدّ وصلت ظاهرة التطلّع المستمر إلى الشاشات الرقميّة بأنواعها كافة، بطريقة تخرج الفرد من الانتباه إلى محيطه وعائلته ومن يتحدثون مباشرة معه، خصوصاً عند الشباب والمراهقين في الولايات المتحدة والدول الغربيّة، بل كافة الدول التي تنشر فيها أجهزة الاتصال مع الانترنت.

لا فطام عن الشاشات!

لماذا يجد الشباب صعوبة في أن «يفطموا» أنفسهم، بالأحرى عيونهم، عن شاشات الخليوي الذكي الـ «تابلت» الرقمي الذي يربطهم بصورة شبه مستمرة مع شبكات التواصل الاجتماعي الرقمي؟

الأرجح أن الإجابة عن السؤال ليست سهلة ولا مباشرة وليست من النوع الذي يحتوي بنداً مفرداً.

إذاً، فلا تغضب حين تجد ابنك المراهق يكتب رسائل «إس إم إس» بدل تنفيذ وعده لك بأن يركّز على دروسه. ببساطة، ربما يكون عاجزاً عن مقاومة إغراء الشاشات وغواية الشبكات الاجتماعيّة.

إذ وجدت دراسة أجريت في «جامعة آيوا» الأميركيّة أنّ المراهقين يكونون أكثر حساسية من الراشدين بشأن التأثير الفوري لسلوك معيّن، خصوصاً حين يتضمّن التأثير نوعاً من المكافأة. ويساعد الاكتشاف في تفسير سبب الإثارة التي يشعر بها المراهقون حين حيال رسائل الخليوي، وهي تتفوّق على النتيجة التي سيحصلون عليها من دراستهم، لأن الأخيرة تأتي بعد مرور زمن طويل.

وأوضح جاتين فايديا، وهي أستاذة في الطب النفسي في «جامعة آيوا» قادت فريق البحث في الدراسة التي نُشرت على شبكة الإنترنت في «مجلة علم النفس»، أن تأثير المكافآت السريعة أقوى على المراهق منه عند البالغين. وأضافت: «حتى حين لا يكون من مصلحة المراهق الاستمرار في سلوك معيّن، فإنه يستمر فيه لأن تأثير المكافأة التي يعطيهم إياها يستمر في دماغه لفترة أطول مما يحدث في دماغ الإنسان الراشد».

وتلجأ بعض الأُسَر إلى تقييد وصول أبنائها إلى وسائل الترفيه الإلكتروني، كي تدفعهم صوب خيارات اخرى. لنأخذ معضلة الفروض المنزليّة وتعارضها مع الانخراط في مواقع التواصل الاجتماعي.

كذلك أشار معدّو الدراسة إلى وجوب إطفاء الأجهزة الإلكترونيّة كافة في المنزل عند التاسعة مساءً، باستثناء حاسوب لا يكون موصولاً بشبكة الإنترنت، كي لا يدخل المراهق إلى مواقع كـ «فايسبوك» و «تويتر».

ولفتت فايديا إلى أنها لا تدعو إلى منع المراهقين من استخدام التكنولوجيا الرقميّة، بل إلى ضرورة ضبط انتباههم كي يتمكنوا من تطوير مهارات تخوّلهم السيطرة على اندفاعاتهم.

وأوضحت أن دراسة فريقها العلمي المعنونة «لفت انتباه المراهقين»، أنّ المراهق يتصرف وفق غريزته ويتّخذ قرارات سيّئة، بل ينخرط في مواقف خطيرة لأنّ الأقسام الأماميّة من الدماغ لديه لا تكون ناضجة بصورة كافية.

لهاث وراء مكافأة

في المقابل، طرح أولئك الباحثون أيضاً سؤالاً عن إمكان وجود أمر أساسي آخر يحصل مع المراهقين ويؤدي إلى اعتماد سلوك لا يمت للاستدلال المنطقي بِصِلَة.

وبيّنت فايديا أن الدراسة سعت إلى فهم طريقة نظام المكافأة في الدماغ، خصوصاً لجهة تغيّره عند الانتقال من مرحلة الطفولة إلى سنّ الرشد، مضيفة إنّ «ميزة المكافأة في دماغ البشر هي أكثر قدماً ورسوخاً من عملية اتخاذ القرارات».

ومن أجل إجراء هذه الدراسة، استعان الباحثون بـ40 مراهقاً تراوحت أعمارهم بين 13 و16 سنة وبـ40 راشداً تراوحت أعمارهم بين 20 و35 سنة. وطُلب من المشاركين إيجاد خاتم أحمر أو أخضر اللون مخبأ ضمن مجموعة من الخواتم على شاشة الحاسوب.

وحين وجده المشاركون، طُلب منهم القول إذا كان الخط الأبيض في داخله هو عمودي أو أفقي. وفي حال كانت إجابتهم صحيحة، يحصلون على مكافأة تتراوح بين 2 إلى 10 سنتات، بحسب لون الخاتم الذي يعثرون عليه. اعتبر بعض المشاركين أنّهم يحصلون على أعلى مكافأة إذا وجدوا الخاتم الأحمر، فيما اعتبر آخرون أنّ العثور على الخاتم الأخضر يخوّلهم الحصول على أعلى مكافأة، مع الإشارة إلى أنّهم لم يعلموا باللون الذي يجلب المكافأة الأكبر!

وبعد إجراء 240 تجربة، سُئل المشاركون إذا لاحظوا أيّ شيء مرتبط بالألوان. ولم يربط معظم المشاركين بين اللون والمكافأة، الأمر الذي يؤكّد بأنّ تمرين الخواتم لم يكن يتطلّب عملية اتخاذ قرارات.

وفي مرحلة تالية، اكتشف الباحثون أنّ المشاركين أجروا رابطاً حدسياً، حين طلب منهم البحث عن هدف على شكل ألماسة. وفي تلك المرّة، كانت الخواتم الحمراء والخضراء فخاً للمشاركين.

في البداية، اختار الراشدون والمراهقون لون الخاتم الذي يخوّلهم الحصول على أعلى مكافأة مالية، لأن ذلك كان هدف التجربة الأولى. وبعد وقت قصير، عدّل الراشدون خياراتهم واختاروا الألماس، فيما لم يجر المراهقون ذلك التعديل. وحتى بعد إجراء 240 تجربة، استمر المراهقون في خياراتهم المتّصلة بالخواتم الملوّنة، ولم ينتقلوا إلى الخيارات التي فكّر الراشدون بها!

+ -
.