الأنظمة الغذائية التقليدية هي الحل !

دفعت قضايا تغير المناخ والبيئة وأمراض العصر المرتبطة بالغذاء الحديث… خبراء البيئة والمناخ والصحة الى البحث في الانماط القديمة للعيش وإعادة تسليط الضوء على الانظمة الغذائية التقليدية في العالم لاستعادة المواد المغذية المفقودة، والذي من شأنه أيضاً أن يساعد في تحسين علاقة المجتمع مع الأرض والبيئة واستعادة الصحة. فالنموذج الصناعي للتغذية ذهب بعيدا في خضوعه لقواعد السوق ومصالح الصناعيين والتجار… وابتعاده عن قواعد التغذية الطبيعية ومتطلبات الانسجام مع الارض والمناخ والبيئة.

في هذا الاطار بدأت بالظهور دراسات وأبحاث لخبراء في التغذية تؤكد أن العديد من الأطعمة التقليدية وغير المصنعة التي تستهلكها المجتمعات الريفية، غنية بالمغذيات وتوفر الأحماض الدهنية الصحية والمغذيات الدقيقة وخصائص التطهير… التي تفتقر إليها بشكل كبير الأنظمة الغذائية الرائجة في البلدان المرتفعة والمتوسطة الدخل.

كما اكدت دراسات أخرى على تميز الوجبات الغذائية للشعوب الأصلية في جميع أنحاء العالم بالتنوع، لا سيما أطعمة الغابات مثل الجذور والدرنات في مناطق شرق الهند، وأسماك المياه الباردة والوعل والفقمة في شمال كندا، والزيتون وزيته والحبوب في بلدان المتوسط… مع التأكيد ايضاً انها تناسب البيئات المحلية ويمكنها مواجهة تغير المناخ وسوء التغذية والمرض.

في لبنان ومنطقة حوض المتوسط بشكل عام، كان النظام الغذائي التقليدي يعتمد على الحبوب المتنوعة بشكل رئيسي، لا سيما القمح وصناعة الخبر من الحبة الكاملة. بالإضافة الى الزيتون وزيته والفواكه الطبيعية والمجففة والقليل القليل من اللحوم التي لا تؤكل الا في المناسبات. واذ كانت معظم الزراعات بعلية لا تحتاج الى الكثير من المياه وتم اختيارها مع تجارب السنين لكي تكون متأقلمة مع المناخ والتربة والبيئة عامة، وحيث يتم تسميد التربة من البقول نفسها او بأنواع خاصة منها… واذ كان يتم تصنيعها بطرق منسجمة مع الطبيعة كاستخدام طاقة المياه في تشغيل طواحين القمح او عصر الزيتون… كان هذا النظام منسجما كثيرا مع البيئة، تمتع من يعيش في كنفه بالصحة والعافية ولم يتسبب بأضرار على النظام البيئي المحيط.

واذ يستحيل العودة الى هذا النظام التقليدي اليوم، بعد ان تجاوزته «الثورات» الصناعية والزراعية، وبعد ان ظهرت عورات ومخاطر النظام الجديد، تطرح اليوم في الكثير من الاوساط العلمية والاهلية (المستقلة عن تأثير كبريات الشركات المصنعة والمسوقة للغذاء الصناعي)، العودة الى النظام القديم كمعيار، لقياس مدى اقتراب السياسات الحالية، لا سيما تلك الصحية والغذائية والزراعية والبيئية منه. فكيف سيحصل ذلك؟ ولما التندر على النظام القديم؟

ح . م .

كثرت الدعوات للعودة الى النظام التقليدي للغذاء كمعيار، بعد ان كثرة في الفترة الأخيرة في البلدان الصناعية المتقدمة الفضائح المتعلقة بسلامة الغذاء الحديث، لا سيما ما يعرف بـ«المأكولات السريعة» كالبيتزا والهامبرغر والنقانق والهوتدوغ… التي أظهرت الكثير من الدراسات مؤخراً عدم سلامتها او عدم وفائها بما تعلنه على أغلفتها من ناحية المواد والمحتويات، حيث تستخدم الكثير من المواد واللحوم التي لم تعد صالحة وتضيف إليها ملونات ومنكهات لتمريرها مع الغذاء المسبب للكثير من الأمراض… بالإضافة الى السمنة وارتفاع الضغط وارتفاع نسب الدهون في الدم وانسداد الشرايين… وكل ما يطلق عليه اليوم اسم «أمراض العصر الحديثة» التي باتت أكثر فتكاً من الأوبئة القديمة (التقليدية) لناحية عدد ونسب الوفيات.

تقول سارة سوميان، وهي خبيرة تغذية من مدينة نيس الفرنسية: «لقد ساهم رواج النموذج الصناعي للزراعة إلى حد كبير في حدوث انفصام في التواصل بين الناس والطعام الموجود على الطبق».

كما يقول جو وودمان، وهو باحث بارز وناشط في «منظمة البقاء الدولية»، وهي منظمة تدافع عن حقوق السكان الأصليين ومقرها في المملكة المتحدة: «يعتبر النظام الغذائي الخاص بالعديد من القبائل والسكان الأصليين غنياً ويوفر الاكتفاء الذاتي، كما أنه نظام غذائي متنوع على نطاق واسع من ناحية التغذية».

ولكن تعطل أنماط الحياة التقليدية بسبب التدهور البيئي وإدخال الأطعمة المصنعة والدهون والزيوت المكررة والكربوهيدرات البسيطة، يسهم في تدهور الصحة لدى السكان الأصليين (او سكان القرى غير المندمجين كليا بالعصر الحديث) وانخفاض إنتاج المواد الغذائية الغنية بالمغذيات التي يمكن أن تفيد جميع المجتمعات.

وقالت هارييت كوهنلاين، المديرة المؤسسة لمركز التغذية والبيئة للشعوب الأصلية (CINE) في جامعة ماكجيل الكندية لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) من مونتريال: «يجب توثيق النظم الغذائية التقليدية ليدرك صانعو السياسات الأخطار الناجمة عن تدمير النظام البيئي والتي لا يقتصر أثرها على الشعوب الأصلية التي تعيش هناك فقط، ولكن على الجميع».

أنظمة غذائية تندثر

منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، أدى النمو الاقتصادي والتوسع العمراني وزيادة عدد السكان في العالم إلى أكثر من سبعة مليارات نسمة، إلى تضاعف استهلاك الأطعمة الحيوانية، بما في ذلك اللحوم والبيض ومنتجات الألبان، والتي ساهمت بنسبة 13 في المئة من الطاقة في النظام الغذائي العالمي في العام 2013، وفقاً للمعهد الدولي لبحوث الثروة الحيوانية (ILRI) في العاصمة الكينية نيروبي. وأشار المعهد إلى أن تربية المواشي تستهلك ما يصل إلى ثلث الحبوب في العالم.

وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، يمثل التوسع الزراعي (الذي يتم جزء منه لزراعة المزيد من الحبوب) 80 في المئة من عمليات إزالة الغابات في العالم. ومع التوقعات بارتفاع عدد سكان العالم إلى نحو تسعة مليارات نسمة بحلول عام 2050، لا بد من زيادة إنتاج الغذاء بنسبة 50 % لإطعام هؤلاء الناس، في حال توفر نظام بيئي صحي يمكننا من زيادة الإنتاج. وقالت كوهنلاين: «عندما يتم تدمير أو تلويث البيئات، فإن ذلك يؤثر على الطعام الذي يمكن أن توفره تلك البيئات».

تعتمد «نظم» الغذاء الخاصة بالسكان الأصليين على جمع وإعداد الطعام لاستخلاص أقصى قدر من المغذيات التي يمكن أن توفرها بيئة ما. ولكن الصفة التي تشترك فيها هذه الجماعات هي المعرفة الجيدة لكيفية تناول الطعام المغذي من دون الإضرار بالنظام البيئي.

وقالت دراسة تدعمها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) عن الأنظمة الغذائية والتغذية والصحة عند السكان الأصليين، شاركت كوهنلاين في تأليفها العام 2009: «تحتوي النظم الغذائية الخاصة بالشعوب الأصلية على كنوز من المعرفة من الثقافات التي تطورت على المدى الطويل وأنماط المعيشة التي تتناسب مع النظم البيئية المحلية».

أطعمة غنية بالمغذيات

وفي السنوات الأخيرة، ازدادت في البلدان المتقدمة شعبية حبوب مثل الكينوا والفونيو والدخن التي كانت تزرع منذ زمن بعيد من قبل المجتمعات الأصلية والريفية في البلدان النامية، ولكن تم تجاهلها على نحو متزايد من قبل الجيل الشاب الأكثر ثراء والذي يفضل الأغذية المستوردة.

وقد ساعدت الأبحاث والتسويق والتمويل الذي توفره الجهات المانحة في رفع الوعي بخصوص قدرة هذه الحبوب التي تحتوي على نسبة عالية من البروتين على خفض الكولسترول وتوفير المغذيات الدقيقة وخفض خطر الإصابة بمرض السكري.

وأضافت خبيرة التغذية سوميان: «بسبب الفوائد الصحية المتعددة لهذه الأطعمة المنسية، أو غير المعروفة (حتى فترة قصيرة)، فإن تقدير ثقافات الشعوب الأصلية وحكمة الأجيال السابقة يعد أمراً حيوياً في الحد من المرض والإصابة بالالتهابات».

انخفضت زراعة الكثير من انواع الحبوب التقليدية المغذية لمصلحة زراعات صناعية وتجارية كالارز. ويعزى هذا إلى تحويل الأراضي الزراعية إلى حقول مخصصة لزراعة الأرز للدخول في برامج زراعة الأرز المدعوم من قبل الحكومة لإنتاج الأرز الأبيض المصقول، وذلك على الرغم من المخاطر الصحية للأرز الأبيض المنقى.

«لماذا تقوم باستبدال الحقول التي تنتج الطعام المغذي (بحقول الأرز)عندما يكون هناك الكثير من سوء التغذية في المنطقة؟» يسأل سارانجي الذي ذكرت منظمته في عام 2011 أن 75 في المئة من جميع أطفال الكوند (شرق الهند) من دون سن الخامسة كانوا يعانون من الهزال (وزنهم أقل بكثير بالنسبة لأعمارهم)، و55 في المئة منهم من التقزم (قصار جداً مقارنة بالأطفال في مثل سنهم) وهي إحدى علامات سوء التغذية المزمن.

وقال وودمان من منظمة البقاء الدولية: «هناك مفارقة عميقة تتمثل في حقيقة أن العديد من اختصاصيي التغذية يوصون بتناول الأطعمة والأنظمة الغذائية التقليدية الخاصة بالسكان الأصليين، ومع ذلك يتم حث الشعوب القبلية في جميع أنحاء العالم على إتباع «النظام الغذائي الغربي» وما يسببه من نتائج مدمرة».

خيارات غير حكيمة

يقول الدكتور مارتن راينهارت، وهو من الأميركيين الأصليين من قبيلة أنيشابي أوجيبواي التي تسكن مدينة سو سان ماري في ولاية ميتشيغان الأميركية، وهو أيضاً أستاذ مساعد في دراسات السكان الأصليين في أميركا في جامعة ميتشيغان الشمالية: «لقد فقدنا علاقتنا الأولية مع العالم من حولنا».

وقال راينهارت لشبكة «ايرين» إن الحكماء من الأميركيين الأصليين قاموا تاريخياً بالتخطيط لسبعة أجيال مقبلة عند إنشاء النظم الغذائية، وتعليم كل جيل أنه يقع على عاتقه مسؤولية ضمان بقاء الجيل السابع. لقد فعلوا ذلك من خلال صيد وجمع ما يحتاجونه فقط، مع الحفاظ على الموارد مثل الخشب والمياه وحماية التنوع الغذائي البيولوجي.

وقال راينهارت إنه عندما أجبر الأميركيون الأصليون على الانصهار في المجتمع الأميركي، تم فقدان هذه المعرفة الغذائية التاريخية.

وقال جيم تشامبرلين، عالم الأنتروبولوجيا والمستشار السابق في البنك الدولي والذي يتخذ من عاصمة لاوس فيينتيان مقراً له: «أصبح لدى المجتمعات قدرة أقل من ذي قبل على الوصول إلى الموارد الطبيعية». وأوضح أن وجباتهم التقليدية تعتمد على الغابات وأدى انتقالهم إلى تراجع وضعهم الغذائي. وتعتبر معدلات سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة في لاوس حالياً من بين أعلى المعدلات في جنوب شرق آسيا.

التوازن المفقود

في العالم اليوم علماء وناشطون يؤكدون أن إعادة العافية للنظم الغذائية التقليدية هو المفتاح لصحة الجميع، وكذلك بالنسبة للبيئة، إلا أن عدم وجود سوق لدعم ما يسمى بالأغذية المفيدة يشكل تحدياً جدياً.

في شمال كندا، أفادت الحكومة الكندية أن الكثير من الأسماك الغنية بأحماض أوميغا 3 الدهنية، والتي تعتبر عنصراً رئيسياً في النظام الغذائي التقليدي لقبائل القطب الشمالي، تبيض وتعيش في مياه ملوثة بالزئبق على نحو متزايد.

كما تقلص عمليات إزالة الغابات في جميع أنحاء العالم، والتي غالباً ما تتم لإفساح المجال للإنتاج الزراعي الصناعي على نطاق واسع، من المواد الغذائية التي يمكن جمعها من الغابات.

وقال راينهارت أن كثيراً من الدمار البيئي ناجم عن انفصام المجتمع الحديث عن النظم الغذائية. وقد قام راينهارت بتنسيق مشروع تابع لجامعة ميتشيغان الشمالية يدعى «تخلص من الإرث الاستعماري لنظامك الغذائي»، بين عامي 2010 و2012 وكان يهدف إلى تعريف الناس بالصلة بين الطعام والثقافة والصحة والبيئة.

وفي لبنان خسرنا الكثير من نظامنا الزراعي والغذائي القديم لمصلحة زراعات تجارية غير مغذية وغير مربحة إلا لشركات الأدوية والمخصبات الكيميائية التي لوثت التربة والمياه الجوفية وتسببت بأمراض خطيرة (اخطر من الأوبئة القديمة). وقد تحولت شجرة الزيتون الغذائية والدهرية الى شجرة من أشجار الزينة وما عاد الجيل الجديد يعرف نبتة القمح من نبتة الشعير… ولا شيء عن البعر والبعير!

+ -
.