البيولوجيا تمتطي صهوة الـ«نانوتكنولوجيا» لتتغلغل في دواخل الكومبيوتر

تسعى تكنولوجيا النانو Nano Technology إلى إدخال مواد عضويّة (على غرار أنسجة الجسم وأعصابه) في عوالم الكومبيوتر. وفي قفزة باتت وشيكة، قد تصبح الأنسجة العضويّة جزءاً من مُكوّنات الرقاقات الإلكترونيّة، بل ربما حتى الألياف الضوئية في الشبكات أيضاً. واستطراداً، ربما تعطي تلك المُكوّنات مزيداً من التفاعليّة بين البشر والأجهزة الذكيّة التي يصبح جزء منها «مُشابِهاً» لجسم الإنسان.

«الإحساس والتجاوب»

يعتبر «مجلس البحوث القومي الكندي» («أن آر سي» NRC) إحدى المنظمات القليلة التي تبحث في شؤون تكنولوجيّة معقّدة. ويملك المجلس بحوثاً مديدة عن تكنولوجيا النانو. وقبل بضع سنوات، أصدر تقريراً عن موضوع تحضير أجهزة دقيقة جداً تستطيع «الإحساس والتجاوب» Sense & Respond مع المعلومات التي تجمعها عن محيطها.

وفي حياتنا العادية، تتوافر أجهزة تتجاوب مع محيطها، كمصابيح الإنارة التي تتجاوب مع الصوت أو الأضواء المحيطة بها، وهناك أجهزة تسجيل رقميّة تنطلق إلى العمل عندما «تحسّ» بمستوى معين من الصوت.إذن، الأرجح أن ما تحدث عنه «مجلس البحوث القومي الكندي» يتّصل بأجهزة ذكيّة و»فائقة الصغر»، وفق تعبير التقرير. كذلك يتناول التقرير عينه مسألة حسّاسة هي إدخال مواد عضويّة في صناعة الرقاقات الإلكترونيّة «مايكروشيبس» التي تصنع تقليديّاً من السيليكون.

ويعني ذلك أن ظهور شرائح كومبيوتر تحتوي مواد عضويّة، هو أمر يبدو مثيراً لأن الرقاقات والشرائح هي العقول المفكّرة للكومبيوتر والأجهزة الرقميّة. واستطراداً، يبدو «مجلس البحوث القومي الكندي» كأنه معني بصنع أجهزة صغيرة ومُفكّرة تكون المواد العضويّة جزءاً من تركيبتها، بالتمازج مع المواد الجامدة اللاعضويّة. وفي أحد مقاطع التقرير، هناك حديث عن ألياف ضوئيّة فيها مكوّنات عضويّة تؤدي عملها على طريقة الأعصاب في الجسم البشري أو أكثر، فتنقل المعلومات بسرعة تقارب سرعة الضوء.

وفاة إيجابيّة لـ»قانون مور»

بموجب آراء متقاطعة، من الممكن أن يؤدي تمازج العضوي واللاعضوي إلى تجاوز «قانون مور» Moore’s Law، بطريقة إيجابيّة. وتذكيراً، ظهر ذلك القانون في صيغة توقّع لغوردون مور، وهو أحد مؤسّسي شركة «إنتل» Intel العالميّة العملاقة في صناعة الـ»مايكروشيبس»، بأن تصغر حجم الرقاقات الإلكترونيّة كل 18 شهراً مقابل تضاعف قوّتها. نتائج أخرى؟ لنفكر أنه ضمن «قانون مور» تراكمت تلك الفوارق الهائلة في قدرات الكومبيوتر، بين ما كانته عند ظهورها وحالها حاضراً. كيف تكون الحال عندما تقفز تلك الفوارق بصورة نوعيّة ومتسارعة؟

في سياق متّصل، تظهر الآثار العميقة لمساعي مزج التقنيات الرقميّة المستندة إلى النانو، مع جهود تطويع المواد العضويّة في مجموعة صغيرة من المشاريع الطليعيّة، لكنها تكفي لإلقاء ضوء على ذلك المسار. ويعطي عمل مختبر «بالو آلتو» الأميركي على محاكاة الجهاز العصبي للإنسان، نموذجاً عن تلك التوجّهات.

ويتوقّع علماء ذلك المختبر أن يتوصّلوا إلى صنع تراكيب تصلح لأن تكون بديلاً لما يتلف من أعصاب في جسم الإنسان، بل ربما استخدمت أيضاً في تطوير قدرات الروبوت. وفي المنحى عينه، شهد عام 2014، عمليّة أولى استطاعت فيها رقاقة إلكترونيّة أن تنهض بمهمة الأعصاب المقطوعة في الحبل الشوكي، وتمكّن الشخص الذي زرعت فيه من المشي بعد أن كان مشلولاً. ويعني ذلك أيضاً نهاية الزمن الذي كانت تعتبر فيه الأفكار عن إسقاط الفواصل بين العضوي واللاعضوي، ضرباً من الشطط أو الخيال العلمي أو حتى التفاؤل المفرط بقدرة العلم. ولعل الخطوة الأولى في ذلك الصدد، حدثت قبيل ختام التسعينات من القرن العشرين، بفضل المبادرة الجسورة للرئيس بيل كلينتون بإعطاء تمويل فيديرالي سخي لبحوث النانوتكنولوجيا (كانت في بداياتها عمليّاً)، بقرابة نصف بليون دولار. وشكّل الأمر انطلاقة لما عُرِف باسم «المبادرة القوميّة (الأميركيّة) في النانوتكنولوجيا». وبعد أميركا، سارت دول كثيرة على الدرب عينه.

احتكار العلم = فناء الحضارة؟

بات شائعاً القول إن تحقّق الآمال العريضة للنانوتكنولوجيا، يوصِل إلى صنع أدوات تستطيع التغلغل في دواخل الجسم البشري، كأن «يبحر» مجس رقمي فائق الصغر، في الأوعية الدمويّة للإنسان، كي يرصد أحوالها أو يعالج أمراضها!

ويصعب إغفال أن الخيال العلمي توقّع ذلك الأمر منذ ستينات القرن العشرين. وفي عام 1966، ظهر فيلم «الرحلة الفنتازيّة» Fantastic Voyage (إخراج ريتشارد فلايشر، وبطولة راكيل والش وستيفن بويد) الذي تخيّل دخول غوّاصة مصغّرة إلى حجم كريّة دم، إلى جسم الإنسان. وحينها، تولّى الرسام السوريالي العبقري سلفادور دالي وضع الديكورات الملائمة لتلك الرحلة التي كانت خيالاً، لكنها باتت قريبة من التحقّق.

وغني عن التذكير بانفلات الخيالات والصور عن الاستخدامات العسكرية لتقنيّات النانو، في صنع أسلحة جبّارة لكنها تكون في حجم الفيروس، تقدر على المراقبة كليّة أو إحداث تدمير شامل بالخصم.

لكن، من هو الخصم؟ من يضمن الأيدي التي تدير تلك الأسلحة أو بالأحرى العقول التي توجّهها؟ في الوقت الحاضر، هناك نقاش واسع حول الموت الذي يحمله الروبوت الطائر، على هيئة الـ»درون»، ومدى توافق الأخلاق والحضارة مع أسلحة قوامها أدوات تقودها آلات ذكيّة تحرّكها عقول أكثر ذكاءً، لكنها منفلتة من القيود بل حتى من الوطأة الأخلاقيّة للانخراط المباشر في القتل والقتل المضاد الذي تتضمنه معارك البشر. كيف تكون الحال عندما يصل الأمر إلى أسلحة جبّارة، لا ترى بالعين، ولا رد لما تحمله من أذى؟ كيف يمكن التعامل مع دولة تحتكر تلك القوى؟ ألم يظهر من يقول أن احتكار أميركا للقنبلة الذريّة ساهم في اتّخاذها قرار القصف بالقنبلة الذريّة من دون أن تخشى قصفاً مماثلاً؟ ألم يكن ذلك أساساً في انخراط بعض العلماء، كالأميركي أوبنهايمر، في تسريب قوة الذرة إلى دولة أخرى، كي يحدث «توازن» يبعد عن الإنسانيّة تكرار دمار هيروشيما؟ ألم يكن «توازن الرعب النووي» أساساً في بقاء «الحرب الباردة»… باردة، بمعنى الخلو من القصف النووي الذي لم يتكرر منذ أن حازت دول أخرى أسرار القنبلة المدمّرة وقوّتها؟

في ذلك السياق، يصعب عدم تذكّر مقولات مهندس الكومبيوتر بيل جوي، وهو من مؤسّسي شركة «صن مايكروسيستمز» الشهيرة. ورأى جوي الذي ساهم أيضاً في صنع لغة «جافا» لبرمجة الآلات، أن النانوتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وعلوم الجينوم، تمثّل الأسلحة الفعليّة للدمار الشامل، بل أنها تهدد بفناء الجنس البشري برمّته. ولم يكن صوتاً منفرداً. ففي محاضرة باتت شهيرة، توقّع خبير الذكاء الاصطناعي راي كيرزويل، أموراً تتوافق مع الرؤى المتشائمة لجوي.

حملت تلك المحاضرة عنواناً مثيراً هو «هل أصبحنا نوعاً مهدّداً بالانقراض؟ التكنولوجيا والأخلاق في القرن 21». ويصلح العنوان مدخلاً لنقاشات أخرى واسعة.

+ -
.