يؤكد فاروق الشرع في كتابه «الرواية المفقودة» أن قراءة الأسد لـ «غورباتشوف الأخير» في لقائهما في موسكو في نيسان (أبريل) ١٩٩٠، كانت «صادمة» لأنه ظهر لنا أن الجمهوريات السوفياتية «اقترب وضعها من التفكك» وخرج الأسد من اللقاء «متشائماً» بسبب «تغير الإستراتيجية السوفياتية تجاه حلفائها».
فيما نفى كتاب بثينة شعبان وجود أي معلومة رسمية عن صفقة بين الأسد وأميركا للقضاء على الجنرال ميشال عون الذي أعلن «حرب تحرير» ضد سورية مقابل انضمام سورية الى عاصفة الصحراء وحرب الخليج الأولى وعملية السلام، يؤكد الشرع الصفقة. وفي لقاء الأسد بالرئيس جورج بوش في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٩٠: «بدأ بوش بالحديث عن عون فقال إنه يؤيد ما قامت به سورية في لبنان، لكن يرى أنه من الأفضل أن يتم السماح له بالخروج إلى فرنسا بمبادرة من الأسد. وهذا الموضوع لا يلحق ضرراً بمصالح سورية ويحسن العلاقات السورية – الفرنسية في الوقت نفسه»، وأن الأسد «وافق على خروج عون»… بعدها انتقل الرئيسان لـ «الحديث عن موضوع احتلال الكويت» وعملية السلام. (ص ٢١٨). ويُعتقد أن موقف أميركا من عون وتعزيز القبضة السورية في لبنان كانا متأثرين بإيجابية موقف سورية إزاء الدور الأميركي في حرب الخليج الأولى.
ملف السلام… والوديعة
يتناول الشرع تفصيلاً الملف القريب إلى قلبه وعقله: مفاوضات السلام. يأخذ هذا الملف أكثر من نصف حجم الكتاب في شكل متعمد. وعرض لرسالة التأكيدات الأميركية قبل عقد مؤتمر مدريد ويروي أيضاً القصة الشهيرة عن صورة إسحق شامير الإرهابي في المؤتمر، إضافة إلى ملاحظته أن التلفزيون الرسمي السوري وضع وروداً فوق صور شامير عندما عرض افتتاح المؤتمر كي يغطي وجهه أمام الجمهور المحلي.
وفيما وصف «مفكرة دمشق» المفاوضات بـ «حوار الطرشان»، فإن «الرواية المفقودة» وصفتها بـ «المراوحة بالمكان» وتذكر الشرع قوله لدى خسارة شامير في العام ١٩٩٢ أن ذهابه «لن يكون مأسوفاً عليه لأنه كان عقبة» أمام السلام مروراً بتسلم إسحق رابين رئاسة الحكومة ورغبة شمعون بيريز في اتخاذ «قرارات تاريخية».
الفصول المتعلقة بملف المفاوضات، ممتعة خصوصاً لمن رافق هذا الملف كصحافي. يروي الشرع بأسلوب جاذب عقداً من المفاوضات حول كل كلمة. مبادئ الحل. «التسوية الشاملة» و «تلازم المسارات» ثم «تزامنها» واختلاف سرعتها. الفرق بين «علاقات السلم العادية» ورفض دمشق «التطبيع» و «العلاقات الديبلوماسية». «السلام مقابل السلام» و «الأرض مقابل السلام» و الانسحاب « في» الجولان و «من» الجولان. «محطة الإنذار المبكر» و «ترتيبات الأمن» و «الأمن المتبادل». عبارات كلمات. قراءة الصفحات، تكشف إدارة بارعة للتفاوض. كانت مفاوضات شاقة وصعبة، لكن السوري كان يلتزم كل تعهد يقدمه. ربما كان هذا أساسًا في «الثقة» الأميركية – الغربية بالنظام.
يؤكد الشرع أن النسخة الأولى من وديعة رابين جاءت مع روس في العام ١٩٩٣ حاملاً رسالة من كلينتون حيث اجتمع بالأسد في اللاذقية «دقيقتين» على انفراد ليقول إن رابين «موافق على الانسحاب الكامل من الجولان، إذا تمت تلبية حاجاته الأمنية».
وفي نيسان (أبريل)، سال الأسد وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر: «هل يعني رابين الانسحاب التام إلى خط ٤ حزيران (يونيو) ١٩٦٧؟ أليس لديه أي ادعاء في أي نوع كان في الأراضي الواقعة شرق هذا الخط؟». أجاب: «رابين يفكر بالانسحاب من كل الجولان».
نجح السوري في الانتقال من «الانسحاب الكامل» إلى فرض «خط ٤ حزيران». سيبقى هذا مبدأ رئيسياً في السنوات الست المقبلة من المفاوضات. وأبلغ الأسد كريستوفر أنه في مقابل تعهد رابين نحن مستعدون لـ «الاستجابة للمقترحات الإسرائيلية التي تتضمن إنهاء حالة الحرب بين البلدين، وترتيبات أمنية متفقاً عليها، ورفع المقاطعة ومشاركة سورية في المحادثات المتعددة الأطراف وجدولاً زمنياً لتحقيق ذلك». تعرف هذه بالأرجل الأربع لطاولة المفاوضات. وأشار إلى أن كريستوفر جاء في ١٩ تموز (يوليو) ١٩٩٤ ليقول: «أتيت بالوضوح. التزام رابين لي هو التزام لا يمكن استخدامه إلى أن تقدمواً وضوحاً مقابلاً من جانبكم. أن رابين يريد التأكد أن متطلباته أيضاً ستتم تلبيتها». (ص ٣١١) ثم عرض تفاصيل العرض المتعلقة بمراحل الانسحاب في خمس سنوات في ثلاث مراحل.
أيضاً، يسجل الشرع تحقيق خطوة اضافية خلال زيارة كلنتون دمشق في خريف ١٩٩٤، إذ نجح الأسد في الحصول «لأول مرة من رئيس أميركي على إقرارٍ من رابين باستعداد إسرائيل للانسحاب إلى خط الرابع شرط وضع هذا التعهد في جيبه في انتظار توصل الطرفين إلى اتفاقٍ حول بقية العناصر». لكن «الاعتراف» الأهم في هذا الكتاب: كريستوفر الأميركي لعب بالسوري. استخدمت واشنطن «إغراء» التعهد بالانسحاب الكامل من الجولان في ١٩٩٣ و«خطة ٤ حزيران» في ١٩٩٤ كي تهدئ من روع الأسد ضد اتفاق أوسلو اولاً واتفاق وادي عربة ثانياً. يقول: «شعرنا أن لعبة حدثت في الجولة الأخيرة من المفاوضات وتتمثل هذه اللعبة في أن رابين استخدم كريستوفر لإيهامنا أنه تقدم على المسار السوري لإرباك الفلسطينيين والإيحاء بأن يقبلوا في سرعة ما هو معروض عليهم». (ص ٢٩٢).
قناة سرية مع نتانياهو
يتناول الشرع «العمليات الاستشهادية» في بداية ١٩٩٥وانعكاسها على المفاوضات وملف «الترتيبات الأمنية» خلال لقاءات المسؤولين العسكريين إزاء وثيقة مبادئ إجراءات الأمن في «اللاورقة» وتضمنت إجراءات (ص ٣٢٩ و٣٣٠) لـ «تقليص الأخطار» مع وجوب ان تكون الترتيبات «متساوية ومتبادلة ومتقابلة» قبل لقاء رئيس الأركان الراحل حكمت الشهابي مع نظيره الإسرائيلي أمنون شاحاك في حزيران ١٩٩٥عندما كانت لدى الأسد «نقمة» على موضوع محطة الإنذار المبكر الإسرائيلية لرفضه وجودها في سورية.
يتطرق أيضاً إلى «عناقيد الغضب» وتفاهم نيسان وتشريع المقاومة بفضل الإفادة من «حرب المبادرات» بعد اغتيال رابين في نهاية ١٩٩٥. كان بيريز «التزم وديعة» رابين وفق ما أبلغ كلينتون الأسد في نهاية ١٩٩٥. وبعد زيارته الرئيس اللبناني الراحل الياس الهراوي في تشرين الثاني (نوفمبر) قال الشرع: «يمكن الوصول الى هدف المقاومة بتحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي بواسطة المفاوضات» في إشارة قوية إلى «حزب الله» وإمكانية انتقاله إلى السياسة بدل المقاومة. لكن يضيف (ص ٣٤٧) في ٢٧ شباط (فبراير) ١٩٩٦ «فيما كانت مفاوضات السلام مستمرة وصل نائب الرئيس الإيراني حسن حبيبي، ونقل رسالة من الرئيس هاشمي رفسنجاني إلى الأسد. التقى حبيبي مع قادة الفصائل الفلسطينية لاتفاق اوسلو. صرح بما هو معهود عن دعم المقاومة. في اليوم التالي، اعطى بيريز اشارة وقف المفاوضات».
ربما هذا يفسر أن ايران كانت دائمًاَ قلقة من احتمال تسوية سورية – إسرائيلية وانعكسات ذلك على العلاقة مع إيران ودورها في الشرق الأوسط.
بعد انهيار «إعلان دمشق» وتراجع علاقات سورية الخارجية وتعليق مفاوضات السلام في عهد بنيامين نتانياهو بين ١٩٩٦ و١٩٩٩، جاءت «القناة السرية من وليد المعلم (وزير الخارجية الحالي) سفيرنا في أميركا الذي كان بحكم إقامته الطويلة في واشنطن أقام علاقات وطيدة مع مجموعة مهمة من اليهود الأميركيين القريبين من اسرائيل». (ص ٣٧٩). اذ نقل رجل الأعمال اليهودي رونالد لاودر رسائل بين نتانياهو والأسد، إلى حين مجئ إيهود باراك وأطلق المفاوضات الرسمية «من حيث توقفت» بعد مفاوضات سرية قام بها المستشار القانوني في الخارجية رياض داودي وأوري ساغي في ايلول (سبتمبر)١٩٩٩. (ص ٣٨٧)
مهّد هذا الأمر هذه لمفاوضات «بلير هاوس» التي شارك فيها الشرع في نهاية ذاك العام ولمفاوضات شيبردز تاون بين الشرع وباراك قرب واشنطن في بداية ٢٠٠٠. أظهر الجانب السوري «مرونة» في تشغيل لجان المياه والأمن والسلم التي تهمّ باراك، لكن الإسرائيلي رفض عقد لجنة «ترسيم خط ٤ حزيران»، ما اعتبر تراجعاً من باراك عن التزام «وديعة» رابين. ويعتبر الشرع في قراءته للمفاوضات، بين ٣ و٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٠، أن هناك «تعهداً» من الرئيس الأميركي بأن «وديعة رابين تعني الانسحاب إلى خط ٤ حزيران» لكن الجانب الأميركي وقع «ضحية تلاعب» باراك و «تضليله»، الأمر الذي عبّر عنه كلنتون في اتصال هاتفي طويل أجراه بالأسد في 18 كانون الثاني. لكنه أكد: «حصلت الآن من باراك على إعادة التأكيد على وديعة رابين، مع البدء بترسم حدود 4 حزيران». (ص ٣٣٨)
هل حدث هذا فعلاً، أم مرة أخرى كان الرهان الأميركي على تدهور صحة الأسد والاهتمام بترتيب البيت الداخلي لعقد قمة أخيرة بين كلينتون والأسد؟ يقول الشرع إن الأسد قاطع كلينتون لدى قوله إن لـ «باراك مطالب لا بد أن يحصل عليها مع موضوع الحدود وتأكيد وديعة رابين، وهي بدء المحادثات اللبنانية». ودخل لبنان في المفاوضات الأمر الذي سيظهر لاحقاً بانسحاب باراك في 25 أيار(مايو) من جنوب لبنان بعد انهيار المسار السوري ثم إبقاء سورية ملف مزارع شبعاً مفتوحاً. قال الأسد بضرورة أن تبدأ لجنة فنية من الجانبين لـ «ترسيم حدود 4 حزيران». عندها يمكن القول إن تقدمًا حصل، الأمر الذي سيشجّع اللبنانيين على الدخول في المفاوضات».
استنتج كلينتون من الاتصال الطويل ومن أقنية أخرى سرّية بين واشنطن ودمشق، أن الطريق باتت ممهدة لاتفاق سلام ورسم الحدود. وفي ٧ آذار(مارس) ٢٠٠٠ اتصل كلينتون بالأسد، قائلاً إنه في موقع لـ «تلبية حاجة» سورية الخاصة برسم الحدود «لكن عامل الوقت مهم للغاية، وهذا هو رأي باراك أيضًا»، مقترحاً اللقاء في 9 آذار. قال: «المهلة قصيرة جدًا، لكن لدينا فرصة لا تجوز إضاعتها».( ص٤٤٠). أجابه الرئيس بأنه «مشغول جدًا» بتغيير حكومي. لكن كلينتون أصرّ: «لو لم تكن هناك أشياء مهمة لما ألحّ بهذه الصورة على عقد الاجتماع بسرعة». بعدها جرى الاتفاق على قمة الأسد – كلنتون في ٢٦ آذار.
ويشير الشرع إلى تحوّل دمشق إلى وجهة لمسؤولين عرب وأجانب لمعرفة: «أولاً، فشل (مفاوضات شيبرردزتاون)، ثانيًا، التراجع في صحة الرئيس، ثالثًا، الحكومة الجديدة ودور بشار الأسد في تشكيلها لأول مرة. رابعًا، قصة التوريث التي بدأ الحديث يتناولها مؤخرًا بكثافة في معظم وسائل الإعلام العربية والأجنبية». (راجع ٤٤١).
الفرصة المضيّعة
يقول الشرع: «ليس من طبع الأسد أن يتمسك بالشكليّات (بعد تأخّر حصول اللقاء لساعات) إلا إذا كانت لها انعكاساتها على جوهر الأشياء، وخصوصًا أنه يكنّ مودّة خاصة لكلينتون». يضيف: «بعد مغادرتي جناح الرئيس (في الفندق) لم تشغلني فكرة طغيان التقاليد العربية عليه فهي لا تتناقض مع شخصيته وتفكيره. شغلني أكثر من أي وقت التراجع في وضعه الصحي الذي لا تخطئه العين». بعد الدخول إلى قاعة الاجتماعات وقول كلينتون إن روس «سيغادر حالاًّ الاجتماع بعد أن يعرض عليكم خريطة للجولان» وإنه كان للتو على الهاتف مع باراك الذي أبدى «استعدادًا لإعادة كل الجولان باستثناء شريط يبعد عن بحيرة طبريا٤٠٠ -٥٠٠ متر».
الأسد لم يرغب في المناقشة كعادته، قاطع كلينتون وقال بغضب هادئ: «هم لا يريدون السلام». أردف كلينتون بعدما نظر إلى قصاصة ورق، أن باراك «يعرف تمسك سورية بأراضيها، لكنه لا يستطيع التخلي عن هذا الشريط الضيّق وسيعطيكم بدلاّ منه أرضًا بالمساحة ذاتها، وأشار إلى روس وطلب منه نشر الخريطة فوق طاولة بين الرئيسين». يضيف: «لم يكن لدى الأسد حتى الحدّ الأدنى من الفضول للنظر في هذه الخريطة، وهو الطيّار الذي يعرف كيف كانت تؤخذ الصور من الجو. الموضوع بالنسبة إليه ليست صورة البحيرة من الجو وإنما هي حياته بالذات التي عاشها ورفاقه على الأرض، وعلى شاطئ البحيرة استحم في مائها ويحنّ ليراها». (٤٤٨). ويتابع: «حاول كلينتون استعادة اهتمام الأسد، ولم يفلح (…) لأن الأسد فقد الاهتمام بعد أن تأكد أنهم يريدون من السوريين ألا يقتربوا من مياه البحيرة».
تنتهي «الرواية» بوفاة الأسد في 10 حزيران. ويُروى أن الأسد كان يعبّر لمقربين منه، أنه كان يذكر الفارق بين جنازتَي أنور السادات والرئيس جمال عبدالناصر وأنه لم يكن يريد نهاية مماثلة لجنازة السادات. مات الأسد ولم يوقع اتفاق السلام.
_______________________________
* صحافي سوري من أسرة «الحياة»