الشاعر الكبير خسر معركته مع العالم والقدر

شاعر التجديد والحداثة بدر شاكر السياب قلب الموازين والأنسقة الثابتة والراسخة لبنية الشعر العربي، تلك البنية التي سُكبتْ في قالب شعري ابتكره الخليل بن أحمد الفراهيدي، واضعاً للشعر صيغة نغمية قوامها العروض المُتكوّن من خمسة عشر بحراً والسادس عشر وضعه الأخفش بعد مرور وقت من الزمن.

كان السياب قد نشأ نشأة فيها نوع من الاضطراب والقلق والحيرة، غياب الأم باكراً، تدهور حالته النفسية بعدها، ظهور النبوغ الشعري في وقت مبكر وهو في الطور الأول من المراهقة، ثم ظهور الانجذاب السياسي، وانخراطه في العمل الحزبي الشاق، عبر انتمائه الى الحزب الشيوعي العراقي، النضال ضد الأحزاب الرجعية والحكومات التي كانت من صنيعة المستعمر البريطاني، فشله في بغداد في العثور على فتاة أحلامه، حين كان ذلك متاحاً الى حد ما نتيجة تطور المجتمع العراقي، حيث كانت تلك الفترة تُعَد فترة انفتاح قياساً بهذه الآونة الجديدة من الأزمنة البغدادية المتعثرة في كل شيء.

واجه السياب خلال حياته القصيرة، صعوبات جمة وقلاقل كثيرة ومشاكل كانت تسحب بعضها بعضاً لتلاحقه وهو في أوج شهرته ونبوغه الشعريين. نضال سياسي لا طائل من ورائه سوى جلب المصائب، اعتقال وسجون ومطاردة دائمة من قوات الشرطة السرية والمخبرين، فصل سياسي من عمله، زواجه المبكر بقريبة له، ليدرأ عنه الشبق الذي راح يتدفق في جسده وليس له من حل سوى الاقتران بامرأة، انجاب اطفال وهو موظف بمرتب بسيط، ظهور الداء الذي أودى به وهو في عز الشباب، عائلة تكبر وأفواه تريد، مقابل المرض الذي اصبح يريد حلولاً ودواءً وعلاجاً، وسفراً الى الخارج، ثم تقلبه السياسي بين القومي والأممي، هذا الذي سيؤدي به الى الانفصال عن الحزب الشيوعي العراقي بعد نضال عنيد من قبله للحزب عبر كسب مؤيّدين للحزب ومؤازرين وتغذيته بأعضاء جدد، ثم محاربة الشيوعيين له، بشتى السبل والوسائل، عبر أناس هم لا يقلون شرطية عمن كان يناصبهم الاختلاف في الموقف، محاربته في رزقه والتقليل من أهميته، تلقّيه كفاً من رفيقه الشيوعي الرسام المعروف نوري الراوي، منع قصائده من الانتشار ليتساوى حينها الشيوعي والرجعي والبعثي في محاربة السياب الشاعر ذي الهيكل النحيل والشخصية المهتزة والقوام الآيل الى السقوط، من فرط مرضه الخطر الذي أصاب العظام في ذلك الجسد الواهي، جسد تعرض الى الرضوض الحياتية طويلاً.

من هنا نجد أن الشهرة والنبوغ والمعاناة في التجربة ساعدته كثيراً، لسد بعض الرتوق القدرية التي كان يواجهها دائماً، فالشهرة جعلته يعرض جديده من دواوين وقصائد لدور النشر وللمجلات التي تدفع المكافأة، ولقد أعانه في ذلك جبرا ابراهيم جبرا في بغداد وتوفيق صايغ وسهيل ادريس ويوسف الخال وأدونيس في بيروت. راسل السياب مجلة «حوار» و «أدب» اللتين أدارهما الشاعر الراحل توفيق صايغ، ونشر قصائده في «الآداب» ومجلة «شعر» مقابل مكافآت، هذا عدا ترجماته لدار مجلة «شعر» التي كانت تجزل المكافأة اليه، ثم فوزه بجائزة الشعر العالمي في مهرجان الشعر العالمي الذي اقامته «المنظمة العالمية لحرية الثقافة»، بدافع من يوسف الخال وماسينيون، ثم سفره الى لبنان وعلاجه في لندن على حساب المنظمة المذكورة.

تلك المرحلة من الداء، جعلت السياب يعيش صراعاً نفسياً وداخلياً مع نفسه، صراعاً ادى به الى تخليق الأوهام ورمي تبعة مرضه، تارة على الحزب الشيوعي ومرة على زوجته وأخرى على ممرضته في بيروت. وأحياناً يشتط به الهوس فيعزوه الى أصدقائه ورفاق دربه في الشعر، أو إلى السلطات التي طاردته وجعلت منه هدفاً لرطوبة السجون والمعتقلات، أو على مجمل حياته العامة، وهذا ما توضحه قصائده الكثيرة في هذا المجال.

لذلك رأيناه يهجو زوجته في قصيدة، وعلّل ذلك بكونها هي من دعته الى أن يعود الى العراق وترك العلاج في الخارج، وقصيدته هذه كانت تحت عنوان «القنّ والمجرّة» ومطلعها يقول: «ولولا زوجتي ومزاجها الفوّارُ لم تنهدّ أعصابي/ ولم ترتدّ مثل الخيط رجلي دونما قوّه/ ولم يرتجّ ظهري فهو يسحبني الى هوَّه/ ولا فارقتُ أحبابي». وقد هجا عبدالكريم قاسم في قصيدة وهو على سرير المستشفى في لندن، القصيدة كانت بعنوان «الى العراق الثائر»، وفي أحد ابياتها يقول: «هرع الطبيب إليّ، آهٍ لعلّه عرف الدواءْ /لداءِ في جسدي فجاءْ/هرع الطبيبُ اليّ وهو يقول:/ماذا في العراق؟ الجيش ثار/ومات قاسمُ…/أيُّ بشرى بالشفاءْ».

وفي قصيدة أخرى تدل على روح معذبة تتنازعها الأهواء والأقاويل والقضايا الصغيرة التي لم تكن بقامة قائلها حين يهجو رفيق دربه الشعري الشاعر عبدالوهاب البياتي في قصيدة «المخبر» وفي بدايتها يقول: «أنا ما تشاء، أنا الحقير، صباغ أحذية الغزاة وبائع الدم والضمير للظالمين، أنا الغراب».

أمضى السياب سنواته التي امتدتْ الى الثامنة والثلاثين، في معترك كبير داخل الحياة، حيث صراع الأجنحة السياسية في العراق، الحزب الشيوعي وحزب البعث، صراع بين المفاهيم القومية والأممية، صراع الريف والإقطاع مع الحاكم العراقي، صراع الفلاح مع الإقطاعي، صراع الشعوب مع المستعمر من أجل نيل حقوقها. فقصائد مثل «في المغرب العربي» و «جميلة بوحيرد» و «ربيع الجزائر» و «الى الشعب الثائر» وهي عن تونس وظهور النكبة وتقسيم فلسطين، كلها كانت تصطرع وتعتمل في باطنه الفوار بالشعر، وكلها كانت تظهر على شكل قصائد مصوغة بحس سياسي، مشارك وفعال مع محيطه العربي. وكل ذلك يعود الى فرط الحساسية الشاعرية المرهفة تلك التي كان يحملها السياب في أعماقه الشفيفة، لكونه كان يشعر ويحس بالريادة العربية، وعليه إذاً الإنصات الى ما يقوله الشارع العربي، من دون أن يلتفت الى رأي نقدي، بل احتكم في ذلك الى هاجسه الشعري، ماذا يقول أمام المحن والجوائح البشرية.

+ -
.