الصراع الروسي – الغربي على أوكرانيا

أظهرت التطورات الأخيرة، وخصوصاً بعد السجال الساخن الذي وقع في ميونيخ الاسبوع الماضي بين وزيري الخارجية، الروسي سيرغي لافروف والاميركي جون كيري، أن الحسابات الروسية في شأن الأزمة الأوكرانية كانت متسرعة.

لم تكد اوكرانيا تعلن عن تجميد مسار التقارب مع اوروبا نهاية العام الماضي حتى سارعت موسكو إلى الاحتفال بتحقيق انتصار، واعتبر الرئيس فلاديمير بوتين في حينه ان اوكرانيا «اختارت روسيا». لكن الاحتجاجات الواسعة التي انطلقت وأصابت الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد بحال شلل كامل لم تكن إلا مقدمة لتطورات لم تأت على هوى موسكو حتى الآن. وأشار مراقبون غربيون أخيراً، إلى أن الحوار الذي جمع كيري ولافروف كان غير مسبوق لجهة «تجاوز الأعراف والبروتوكول» لدرجة وصفها بعضهم بأنه حمل «انذاراً غربياً مباشراً للرئيس فلاديمير بوتين».

يبدو من الصعب التحقق من طبيعة «الإنذار»، لكن ما رشح عن اللقاء بعد ذلك يدل إلى جدية ما حصل.

فالوفد الصحافي المرافق للافروف منع من نشر أية تفاصيل عن المحادثة. ونشر احدهم على صفحات التواصل الاجتماعي تعليقاً من دون الإفصاح عن اسمه جاء فيه أن لافروف الذي لم يكن مستعداً للهجة الحوار ومضمونه، اراد مغادرة ميونيخ في شكل مبكر، لكن جاءته تعليمات من موسكو بالتريث. أما ما نشر عن اللقاء في الصحافة الغربية فكان عبارة كيري القوية: على اوكرانيا ان تختار… إما ان تكون ضمن المجتمع الدولي كله او مع بلد واحد! في اشارة لا تخفى إلى روسيا.

واكتفى الوزير الروسي بعد عودته إلى بلاده بإصدار تصريح مقتضب لقناة روسية قال فيه إن لهجة كيري حملت تجاوزات، وتعهد انه سيسأل نظيره الاميركي في لقاء مقبل عن الاسس التي يبني عليها حساباته.

وأشار محللون روس إلى أن ما اغضب موسكو كثيراً ان الحديث حمل تهديداً مبطناً، وقد يكون مباشراً في بعض مناحيه إلى روسيا نفسها. وكأن بقية العبارة تضمنت تلميحاً بأن على روسيا أيضاً أن تقدم خياراتها في شكل واضح.

الكفة تميل الى اوروبا

يبدو من المبكر الجزم بنيات الغرب حيال اوكرانيا وحقيقة «الإنذار» الموجّه إلى روسيا، لكن معطيات الخبراء الروس أشارت إلى أن التطورات الأخيرة تدل إلى توصل الاوروبيين والأميركيين إلى تفاهم واضح حول طبيعة التصرف المطلوب حيال الأزمة الأوكرانية، ما يفسر ازدياد سخونة التصريحات الروسية التي تطالب الغرب بالكف عن التدخل في شؤون البلد الجار. ويرجح خبراء اقتصاديون روس ان تكون اوروبا انجزت مع الولايات المتحدة وضع تصور للوضع في اوكرانيا خلال المرحلة المقبلة، وبدأ العمل على تطبيقه عملياً على الأرض. والمؤشر الأساس إلى ذلك تسارع تطور الأحداث داخل هذا البلد بعد مؤتمر ميونيخ مباشرة. إذ أعلن الرئيس فيكتور يانوكوفيتش في شكل مفاجئ عن استعداده للدعوة إلى انتخابات نيابية ورئاسية مبكرة، وتحدث عن وضع عدد من الاقتراحات للنقاش على الطاولة مع ممثلي المعارضة، وتعهد عدم الذهاب نحو مواجهة الاحتجاجات بسيناريو عسكري امني.

والعلاقات الروسية – الأوكرانية لا يمكن حصرها بالمكاسب أو الخسائر الاقتصادية المتوقعة تبعاً لطبيعة التقارب او التباعد بين البلدين، لأن الترابط العضوي الذي ترسخ على مدى قرون يمنح كييف اولوية قصوى بالنسبة إلى الكرملين. وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وإعلان «استقلال» اوكرانيا، ظلت العلاقات بين الطرفين اشبه بعلاقات بلد واحد تفصل أطرافه حدود وحواجز وقوانين محلية.

ولعبت حقيقة ان نصف الشعب الأوكراني الذي يسكن الأقاليم الشرقية من البلاد يتحدث بالروسية ويتطلع الى تعزيز التقارب مع موسكو دوراً اساسياً في تحويل اوكرانيا الى ساحة نفوذ اساسية للروس ونافذة حيوية على اوروبا لا يمكن فصلها من دون إلحاق آثار كارثية بروسيا نفسها… لأن التحاق اوكرانيا بأوروبا سيعني التزامها بعدد من المواثيق المشتركة التي من بينها اتخاذ سياسات دولية وإقليمية تعارض مصالح موسكو، كما يرجح كثيرون أن الخطوة سيليها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ما يعني إحكام تطويق روسيا عسكرياً، ونشر الصواريخ الغربية تحت نوافذ الكرملين مباشرة.

وعلى الصعيد الاقتصادي – الصناعي، ثمة خسائر لا تعوض ايضاً. إذ تميز النموذج السوفياتي بأنه اقام امبراطوريات صناعية ضخمة توزعت في الفضاء السوفياتي السابق، وبعد انهيار الدولة العظمى السابقة تلاشت غالبية المجمعات الصناعية العملاقة بسبب ذلك، إذ لم يعد ممكناً استمرار مجمع صاروخي في العمل مثلاً عندما تنتج أجزاء منه في ضواحي موسكو وأجزاء اخرى في كازاخستان أو في اوكرانيا أو بيلاروسيا.

أما المجمعات الأخرى التي ورثتها اوكرانيا وما زالت تشكل قاعدة صناعية كبرى فهي ظلت مرتبطة بصناعات مختلفة في بلدان أخرى على رأسها روسيا. ومثلاً تقوم مصانع اوكرانية بتقديم تقنيات لازمة لصناعة المحطات الكهروذرية الروسية، ولمجمعات الصواريخ وغيرها من الصناعات الحيوية لاقتصاد البلدين.

ويعني ذلك ان تداعيات تحول اوكرانيا إلى أوروبا قد تكون ابعد من ان تحصى في شكل سريع.

في الوقت ذاته، فإن السوق الأوكرانية تعد من اضخم الاسواق بالنسبة إلى الصناعات الروسية التي لن تكون في الغالب قادرة على منافسة الصناعات الأوروبية اذا سارت الامور وفق السيناريو السيئ للروس… ما يعني خسائر كبيرة لقطاعات مهمة وحيوية سيكون عليها البحث عن اسواق جديدة لتعويض خسائرها الفادحة.

جزرة روسية وأخرى اوروبية

بدت سياسة العصا والجزرة هي المسيطرة على الأداء الروسي وكذلك الاوروبي منذ اللحظة الاولى لاندلاع الازمة السياسية الخانقة في اوكرانيا.

وكانت الوعود الاوروبية بتقديم قروض وضمانات تلبي حاجات اوكرانيا خلال «المرحلة الانتقالية» التي تتطلب منها القيام بإصلاحات باهظة اقتصادياً ومعيشياً، تقابل في كل محفل بتحذيرات من جانب أنصار التقارب مع روسيا بأن الخسائر الاجمالية والتكلفة على كاهل المواطن الاوكراني ستكون اشد قسوة اذا تم اختيار المسار الاوروبي على رغم الوعود المعسولة.

وتشير تقديرات خبراء اقتصاديين إلى ان اوكرانيا بحاجة ماسة إلى استثمارات قيمتها الاجمالية نحو عشرين بليون يورو خلال السنوات العشر الاولى، وهي ستذهب إلى تغطية العجز في عدد من المجالات الحيوية لتطويع قطاعات عدة لتتناسب مع المعايير الاوروبية.

وبلغ الحجم الاجمالي للوعود الاوروبية لدعم اوكرانيا نحو 12 بليون يورو عبر صندوق النقد الدولي الذي ربط القروض بتنفيذ اصلاحات اعتبرتها الحكومة الاوكرانية مرهقة لاقتصادها.

في المقابل، سارت موسكو فور اعلان كييف عن تجميد التوقيع على وثائق التقارب مع اوروبا خطوات لتعزيز صمود حليفها فيكتور يانوكوفيتش في وجه الاحتجاجات القوية في الشارع. وأعلنت عن تقديم قرض قيمته 15 بليون دولار على شكل سندات مالية تستثمر لمصلحة الحكومة الاوكرانية، حصلت منه اوكرانيا حتى اللحظة على مبلغ ثلاثة بلايين دولار.

وفي حينه، قال بوتين إن المساعدة الروسية لـ «الأشقاء» لا تشترط تقييد كييف بأية التزامات او شروط اصلاحية. وحملت العبارة انتقاداً مبطناً لصندوق النقد الدولي.

لكن موسكو لم تكتف بذلك، بل منحت كييف هدية سخية اخرى عندما قام عملاق الغاز الطبيعي الروسي «غاز بروم» بإجراء مراجعة على اسعار الغاز لكييف، وتم تخفيض تكلفة الألف متر مكعب من الغاز الطبيعي بمعدل الثلث، من 400 دولار وفق العقود الموقعة سابقاً إلى 268 دولاراً.

في تلك اللحظة، بدا أن موسكو أمسكت بزمام المبادرة تماماً في الملف الأوكراني وأجبرت الغرب على التراجع في مواجهة خسر معها مواقع اضافية.

وسرعان ما انعكس ذلك على الموقف الداخلي، إذ ارتفعت لهجة السلطة وهراوتها في آن. وأُجريت محاولات عدة لـ «تنظيف» المناطق والمباني الحكومية التي سيطر عليها المحتجون، ما اوقع مواجهات عنيفة أُريقت فيها دماء للمرة الأولى.

لكن الأهم من ذلك، أن السلطة اتجهت إلى تشديد قبضتها الامنية عبر البوابة القانونية ايضاً، فناقش البرلمان قانون مواجهة العنف والتطرف وأقره بقراءات سريعة.

وعندما بدا أن الامور مالت نحو الاستقرار وأن ما تبقى من اعتصامات في الميدان لم تلبث أن تلاشت تدريجاً، عادت الامور الى الاشتعال في اليوم الاول لدخول القانون الجديد حيز التطبيق في 19 من الشهر الماضي. وبدا واضحاً ان الزخم عاد بقوة الى الشارع خصوصاً بعدما سقط قتلى برصاص قناص.

بالتوازي مع تصاعد سخونة الحدث الميداني، عاد الملف إلى طاولة النقاش أمام الاتحاد الأوروبي وتسبب في افساد القمة الروسية – الاوروبية التي عقدت نهاية الشهر الماضي ولم تخرج بنتائج، بينما اصدر الزعماء الأوروبيون بياناً حمّلوا فيه السلطات مسؤولية تأزيم الموقف وحذّروها من محاولات تسوية الازمة عبر استخدام القوة.

مع هذا التطور، بدا ان الكفة بدأت تميل الى غير مصلحة النظام، خصوصاً مع الدخول القوي للولايات المتحدة على الخط.

وأسفر ذلك عن بدء الحديث عن إقالة الحكومة واحتمال حل البرلمان الذي بدا عاجزاً عن مواجهة الازمة، بينما غاب الرئيس يانوكوفيتش عن الأحداث في اجازة مرضية. على هذه الخلفية، جاءت لقاءات ميونيخ والضجة التي أثيرت حولها.

ومهما كانت طبيعة التطورات اللاحقة، فإن المؤشرات «السلبية» بدأت تظهر في تعليقات المحللين والخبراء الروس الذين انخرطوا في مناقشة سلبيات انسلاخ اوكرانيا عن مسار التكامل في الفضاء السوفياتي السابق الذي عمل عليه بوتين طويلاً واستعدادها للتقارب اكثر مع اوروبا.

بلغة الأرباح والخسائر، سرعان ما ظهرت معطيات عن العقود التي يمكن ان تخسرها روسيا في شكل مباشر، وبينها عقود كانت الشركات الروسية الحكومية والخاصة سارعت إلى توقيعها مع كييف فور الاعلان عن منح البلد الجار القرض الروسي وانتشار حال الارتياح لقرب زوال الازمة السياسية وانتصار يانوكوفيتش… ومنها اتفاق حكومي ينظم استئناف انتاج طائرات شحن مشتركة من طراز «آن 124» ونص الاتفاق على انتاج 80 طائرة قدرت الحكومة الاوكرانية عائداتها على الطرفين بنحو 13 بليون دولار.

أيضاً تراجعت احلام عدد من الشركات الاوكرانية العاملة في تقنيات المحطات الكهروذرية التي دخلت منافسة للفوز بعقود لتزويد محطة «كورسكوي» الروسية بالمعدّات اللازمة لتشغيلها.

وباتت فرص مشروع مشترك لشق نفق يقطع خليج كيرشينسكي في مهب الريح.

ومن بين سلسلة مشروعات مشتركة كانت موضوعة على الطاولة وتحدث عنها يانوكوفيتش بعد زيارته إلى موسكو بداية العام، قطاعات التقنيات الدقيقة والبنى التحتية مثل الطيران وبناء السفن والطاقة الذرية ومجمعات الصناعات الصاروخية.

في المقابل، ظهرت معطيات تشير إلى ان الاتحاد الأوروبي بدأ يجهز رزمة جديدة من الحوافز لأوكرانيا، تبدو هذه المرة اكثر اغراء كما اشارت صحيفة اوكرانية، اذ بدأ الاوروبيون بدراسة سلة قروض تصل قيمتها الاجمالية إلى 19 بليون يورو، وترددت أنباء عن ان المساعدات الأوروبية لن تقتصر على قروض مالية، بل ستشمل برامج لتحسين المناخ الاستثماري في البلاد، مع التأكيد هذه المرة أن كل المساعدات التي ستقترح لن تُلزم اوكرانيا اجراء اصلاحات مؤلمة بالنسبة إلى الوضع المعيشي الاقتصادي الداخلي.

متفائلون ومتشائمون

ويبدو الانقسام واضحاً عند الخبراء الروس في تحليل التداعيات القصيرة او البعيدة المدى لانتقال اوكرانيا الى الحظيرة الاوروبية، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي.

يعتبر بعضهم ان روسيا ستواجه وضعاً سيئاً ستكون له آثار مباشرة على اقتصادها، خصوصاً لجهة خسارة القطاع المتوسط سوقاً ضخمة يبدو من الصعب تعويضها بسرعة.

لكنّ آخرين قللوا من اهمية الخسائر الاقتصادية، واعتبروا ان المشكلة إذا وقع هذا التطور، ستكمن في تعرض روسيا لهزيمة سياسية وديبلوماسية من العيار الثقيل ستكون الاكثر إيلاماً منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، لأن منطقة النفوذ الروسي ستنكمش بقوة، ولا يستبعد ان يحفز تطور من هذا النوع بلداناً اخرى على ان تحذو الطريق ذاته مثل مولدافيا وأذربيجان، خصوصاً ان روسيا خسرت جورجيا اصلاً منذ الحرب بين البلدين عام 2008 التي اسفرت عن سلخ اقليمين جورجيين هما ابخازيا وأوسيتيا الجنوبية واعتراف موسكو بهما جمهوريتين مستقلتين.

ويصعب التكهن مباشرة بكل التداعيات السياسية القصيرة او البعيدة المدى. لكن على المستوى الاقتصادي، لا تبدو الصورة قاتمة برأي المتفائلين.

بعضهم يرى ان الصناعات المشتركة لن تتأثر كثيراً حتى لو خرجت اوكرانيا نهائياً من المعادلة، لأن بإمكان روسيا الاعتماد على شركات مماثلة في الفضاء السوفياتي السابق وخصوصاً في كازاخستان التي تبقى حليفاً اساسياً للروس.

أيضاً، لن تتأثر برأي هؤلاء كثيراً مسألة امدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى اوروبا عبر الاراضي الاوكرانية، فهذه حاجة ماسة للأوروبيين انفسهم ولأوكرانيا كمستهلك وكبلد ترانزيت يجني ارباحاً كبيرة، لذلك يبدو من الصعب تصور ان يتم تهديد الإمدادات بطريقة او بأخرى.

وحتى الرزمة المالية التي وعدت بها موسكو جارتها على شكل سندات مالية ستكون (موسكو) قادرة على بيعها في اي وقت، ويرى البعض ان سعرها قد يزيد اذا تحسن الوضع الاقتصادي الاوكراني.

في المقابل، يقول هؤلاء ان اوكرانيا هي التي ستعاني بالدرجة الأولى، إذ سيكون عليها ان تمر بسنوات عجاف قبل ان تتمكن من الانخراط تماماً بالطريق الاوروبي، وستكون تكلفة تأهيل الاقتصاد الاوكراني وفق المعايير الاوروبية عالية جداً على الصعيد المعيشي للمواطن.

ناهيك عن ان كييف ستخسر ايضاً سوقاً عملاقة، إذ يشتري الروس الكثير من المنتجات الاوكرانية حالياً، وستفيد الجارة الوفية لموسكو بيلاروسيا من غياب البضائع الاوكرانية المنافسة لها بقوة في الاسواق الروسية.

+ -
.