العالم لا يحتمل «مزحة» ميلان كونديرا

بين الخفّة والتفاهة والضحك والمزاح، تتوزّع عناوين معظم أعمال ميلان كونديرا، لتُشكّل وحدة في الثيمات التي اشتغل عليها صاحب «غراميات مضحكة». فالكاتب التشيكي، الذي درس علم الموسيقى والسينما والآداب، اختار أن يُعبّر عن الموضوعات الأكثر صرامةً بالأساليب الأكثر هزلية، فظلّت المفردات العبثية أشبه بدعامات تقوم عليها إبداعات كونديرا من «خفة الكائن التي لا تُحتمل» و«المزحة»، إلى «الضحك والنسيان» و«الجهل» و«حفلة التفاهة»…

ومع أنه تعمّق في السياسة والفكر والفلسفة، واختبر الحياة الحزبية مع الشيوعيين في براغ عام 1948، ارتأى كونديرا (1929) أن تكون الخفّة سمة كتاباته. لم تُرعبه فكرة التسلية والإمتاع، مثلما فعلت بأبناء جيله من الأدباء الذين عايشوا فترة الغليان الحزبي والإيديولوجي في أوروبا والعالم. وعلى خلاف ما كان سائداً في أدب النصف الثاني من القرن العشرين، لم يرَ كونديرا إلى الرواية وسيلةً يُمرّر من خلالها أفكاراً «عظيمة» يعتقد بها، إنما بحث عن أدب يقدم توليفة مثالية بين المعنى الجادّ والأسلوب المُسلّي، على غرار ما قدّم سرفانتيس في «دون كيشوت» مثلاً أو حتى ديدرو في رائعته «جاك القدري». وبالفعل طغى هذا المزاج التهكميّ على غالبية ما قدّمه كونديرا من كتبٍ وروايات، أشهرها روايته «المزحة»، التي صدرت بترجمة عربية جديدة أنجزها خالد بلقاسم عن المركز الثقافي العربي.

بناء أوركسترالي

يبني ميلان كونديرا روايته الأولى على أساسين اثنين اعتمدهما في معظم ما كتب، إن لم نقل كل ما كتب، هما الهزل (على مستوى المعنى) وتعددية الأصوات (على مستوى المبنى). تنقسم الرواية إلى سبعة أقسام، وهو عدد الأقسام أو الفصول التي تتكوّن منها كلّ أعمال كونديرا، باستثناء قلّة قليلة منها. وليس عبثاً هذا التنظيم «الأوركسترالي» في البناء الفني لروايات كونديرا الذي يكتب بروح الموسيقيّ الذي في داخله، هو الذي تعلّم عزف البيانو صغيراً متتلمذاً على أبيه لودفيك كونديرا، الموسيقي ورئيس جامعة جانكيك للموسيقى والآداب.

يتبدّل الرواة بتبدّل فصول الرواية. لودفيك، هيلينا، جاروسلاف، كوستكا. ومن خلال صيغة المتكلم، تتناوب أربع شخصيات على سرد الأحداث، أو بالأحرى الحدث المتصل أولاً وأخيراً ببطل الرواية لودفيك. «مزحة» عابرة تصنع فجأة انفجاراً في حياة، بل حيواتٍ عدة. تُبدّل مصائر أربعة أشخاص وتُغيّر مساراتهم.

إنها مصادفات عجيبة تتسبّب فيها رسالة من سطرين كتبهما لودفيك – بدافع الهزل – إلى زميلة يُحبّها هي ماركيتا، الحزبية الجميلة: «التفاؤل أفيون الشعب. العقل السليم يُعفّنه الغباء. عاش تروتسكي. (لودفيك)».

تنطلق الرواية مع عودة لودفيك إلى المكان الأوّل، مدينته التي يعيش بعيداً عنها منذ خمسة عشر عاماً. «هكذا بعد سنوات عديدة، وجدتُ نفسي في مدينتي من جديد». يستخدم لودفيك زمن الحاضر في حديثه عن عودته الى مدينته وتحضيراته للقاء ما، ليعود من ثمّ، إلى الماضي (الفصل الثالث) واصفاً لحظة القبض عليه بتهمة خيانة الحزب والتهكّم عليه. فيستعيد البطل/ الراوي لحظة مثوله أمام لجنة الانضباط الحزبي. يتوقف عند تفاصيل استجوابه في مقرّ سكرتارية الحزب، الذي اعتبره خائناً، عدواً للإشتراكية، ساخراً من تفاؤلها، متحاملاً على مشاريعها. «أنت ترى أنّ الأفيون هو تفاؤلنا. لقد كتبت ذلك إلى ماركيتا. وتابع الثاني: كم أودّ أن أعرف ماذا سيكون ردّ فعل عمّالنا من الصدمة التي تفوق كلّ تصوّر إن علموا بأنّ تفاؤلهم أفيون. وأضاف الثالث: بالنسبة إلى التروتسكيين، لم يكن التفاؤل البنّاء دوماً إلاّ أفيوناً، وواضح أنك تروتسكيّ. يا إلهي، من أين جئتم بهذا الحكم؟ قلتُ محتجاً… تعلمون أنّ ماركيتا تأخذ كلّ شيء على محمل الجدّ وقد كنا دوماً نسخر منها لإغاظتها… تدخّل الثاني: ولكن حدّثنا قليلاً، ما الذي كانت تأخذه على محمل الجدّ؟ أهو الحزب مثلا، التفاؤل، السلوك، أليس كذلك؟ كلّ هذه الأمور التي تأخذها هي على محمل الجدّ لم تكن تبعث فيك أنت إلاّ الضحك»…(ص 48). أما هو، فلا ينفكّ يدافع عن نفسه بأنه حزبيّ أصيل، لكنه في الوقت نفسه، شخصية مرحة تميل تلقائياً إلى الدعابة والهزل.

تتميّز العمارة الروائية عند كونديرا بالتطابق بين الأسلوب والمدلول. ففي رواية «المزحة»، (صدرت باللغة التشيكية عام 1965)، يُقابل صاحب «فالس الوداع» صرامة تلك الحقبة من تاريخ بلاده ليس بفحوى الرواية فحسب، إنما بشكلها أيضاً. فيختار مفردات يصحّ القول فيها إنها تأسيسية، تعدّد استخدامها في هذه الرواية، وهي حاضرة غالباً في مجمل أعماله، نذكر منها على سبيل المثل: لا مبالاة، ازدراء، خفّة، هزل، دعابة، ضحك، مزحة، مزاح، تهكّم، سخري، تفاهة، بلاهة…

نقد الجماعة

تتحرّك الرواية في مناخ واقعي عايشه التشيكيون، ومنهم الكاتب نفسه، إبّان حكم النظام الشمولي في تشيكيا ودول أوروبا الشرقية. تتولّد أحداثها من «مزحة» كتبها الحزبيّ الشيوعي لودفيك على ورقة ليُلاعب صديقة تُبالغ في جديتها وتُغالي في «تحزّبها». لكنّ النظام التوليتاري في تشكسلوفاكيا حينذاك- كما كلّ الأنظمة الديكتاتورية في العالم- لم يكن يتحمّل فكرة «الضحك». التفاؤل بالاشتراكية و»أحلامها» الاصلاحية ضروري، لكنّ الفرح لا ينبغي أن يتجاوز جديّة الحزبيين الصارمة. وهذا ما كان يسعى كونديرا دوماً إلى انتقاده في العقل الشيوعي/ الاشتراكي، إذ كيف يُمكن عالماً بهذه الغرائبية ألاّ يحتمل الدعابة؟ وكيف يمكن الإنسان فيه ألاّ يتعامل معه بخفّة؟ «لم يكن الفرح في تلك المرحلة يحتمل الدعابة والسخرية، لقد كان فرحاً وقوراً، كان يُسمَّي بفخر «تفاؤل الطبقة المنتصرة التاريخيّ»، كان فرحاً متقشفاً، رسمياً، بكلمة واحدة «الفرح» (ص 40). وما كان من لودفيك إلاّ أن يدفع ثمن هذه «المزحة» غالياً، بحيث خسر الدراسة والمشاركة التنظيمية والعمل والصداقات. بعبارة واحدة تفتقد إلى الجديّة ضاع كل ما له معنى في الحياة، الحبّ والتوق إلى الحبّ. ولم يتبقّ له سوى الزمن. «الزمن يمّحي بلطف خلف أفعالي» (ص 69)، يقول لودفيك.

ولا تخلو الرواية من نقد جليّ لذهنية «الحزب» التي تُقدّم الجماعة على الفرد، وتلغي «فرديّة «الحزبيّ» وشخصيته وحريته. فالعضو في الحزب يغدو ملك جماعته، ولحزبه الحقّ في معرفة من هو وكيف يُفكّر وبماذا يجب أن يفكّر. «بدا محو الشخصية الذي كنّا نخضع له معتماً تماما قي الأيام الأولى، فالأعمال غير الشخصية والمفروضة التي كنا نؤديها حلّت محلّ سلوكاتنا الإنسانية» ( 65). وينسحب نقد الراوي لودفيك للحزب الإشتراكي الذي حكم تشيكيا سنوات قبيل ما سُمي «ربيع براغ» على واقع كونديرا نفسه الذي طُرد مرّتين من الحزب الشوعي بتهمة إبراز «فردانيته» . ويُقدّم كونديرا، على لسان شخصياته، صورة اجتماعية لتلك المرحلة، فيصفها ب»فترة انعدام الأناقة بصورة جذرية» تارة، وب»عصر التفاؤل والمستقبل السعيد» طوراً.

تسمح تقنية البوليفونية أو السرد المتعدد الأصوات بعرض الحدث/ الفكرة ذاته (ها) عبر وجهات نظر مختلفة. فمن لودفيك، الشيوعي المرح الذي لم يكن هزله يتناسب مع روح العصر، ينتقل السرد إلى هيلينا، زوجة بافيل (صديق لودفيك) لنكتشف أنّها هي العشيقة التي أراد لودفيك أن يلتقيها بعد عودته إلى مدينته، انتقاماً من صديقه الذي يتخلّى عنه بعد كارثة «الرسالة الهزلية» (المزحة). وهي تُمثّل الحضور النسائي في الحزب الإشتراكي آنذاك وتأثير الإلتزام الحزبي في العلاقات العاطفية والزوجية. تقع هيلينا في حبّ لودفيك، فتخون زوجها معه بعد قصة حبّ عاصفة جمعت بينهما أيّام الثورة والتظاهرات والحركات الطالبية في بلادها. تخون الزوج من غير أن تفقد حنينها إليه، هو الذي يُمثّل لها زمناً جميلاً لا يزال حاضراً في وجدانها. لكنها رأت في لودفيك النسخة التي تحبّ أن تكونها، هي التي لا تخجل من أن تكون كما هي، لا كما يُريد الآخرون أن تكون. أمّا جاروسلاف الموسيقيّ فيجسّد شخصية الفنان في تلك المرحلة، ويستخدم كونديرا معارفه الموسيقية والفنية في بناء هذه الشخصية المميزة. أمّا كوستكا، فهو الحزبيّ المتدين الذي لم يفهم الحزبيّون كيف يُمكن شيوعيا ألاّ يكون ملحداً. وهو يُقارب بين تقبّل الإشتراكيين لمسيحيته قبل شباط (فبراير) 1948 ورفضهم لها بعد هذا التاريخ، وسماع أصوات تندد ب»اشتراكية» شاب ذي قناعات دينية واضحة، باعتبار أنّ المبادئ الحزبية الشيوعية تقـــوم عــلى الشكّ والعقلانية لتدخل الإشتراكية في فترة إيمان جماعي بالــــطــروحــات المــــاركســــية والوجــودية، وتــصـــير مــن ثـمّ أفكاراً غيــر قـــابـــلة للمـــساس، وبالتالي «مقــدســة» وفـــق المصطلح الديني.

بأسلوب تهكمي ساخر يكشف كونديرا في روايته عن مجتمعه التشيكي زمن حكمته إيديولوجيات هي من تبعات الحكم الستاليني الصارم. «المزحة» رواية تتهكّم من جدية الأنظمة والأحزاب والأفكار في ظلّ عالم عبثي لا يعدو كونه مزحة عابرة.

+ -
.