ما قاله مسعود البرزاني حين وصف حالة العراق اليوم بالتفكك لم يكن مفاجئا لأحد.
فالعراق التاريخي صار نوعا من الماضي. هذا ما خطط له المحتل الاميركي قبل أن يقع الاحتلال وقبل أن تسقط الدولة العراقية. لقد حدث شرخ عميق بين بيئة ثقافية واجتماعية انتجت الاستبداد بأشكاله المختلفة وبين بيئة متقنة الصنع حلت جاهزة بكل تشظياتها الاجتماعية والثقافية ليكون العراق بعدها دولة مكونات متناحرة أو قابلة للتناحر، لم تنضج أهدافها بعد.
كانت ولادة عراق جديد هدفا استعماريا وجد له صدى في نفوس بعض العراقيين، ممن يدركون أن بلدا بحجم العراق، بتنوعه الاثني والديني وبتاريخه العريق الذي يمكن أن يُقرأ من جهات عديدة لن يُدار موحدا إلا من قبل سلطة قوية. ولان ذلك البعض يعرف جيدا أنه ما كان ليكون له وجود في السلطة لولا الاحتلال الأميركي فقد وجد في صورة العراق ضعيفا نوعا من محاولة شراء رضا المحتل، اضافة إلى ان ذلك العراق ستسهل ادارته من قبل سياسيين هواة، هم في حقيقتهم مجرد لصوص محترفين.
غير ان المشكلة تكمن في ان ذلك العراق الضعيف لن يكون قادرا على الحفاظ على وحدته. لا بسبب وهنه وعجزه عن كبح جماح القوى الانفصالية، حسب بل وايضا لأن الدولة الافتراضية فيه كانت شبحا تابعا لمجموعة الفرق والاحزاب والميليشيات التي حضرت اليه بمعية المحتل الذي يسر لها سبل الوصول الى السلطة.
لذلك فان ولادة عراق جديد لا تزال متعسرة، بل وستبقى كذلك إلى أن يحل موعد التقسيم.
ولأن الزعيم الكردي مسعود البرزاني هو واحد من أهم أولئك السياسيين الذين أوكلت لهم مهمة صناعة العراق الجديد، فيجب أن يُحمل كلامه محمل الجد. وقد يكون مناسبا القول هنا إن لدى البرزاني من أسرار جغرافيا العراق الجديد ما لم يتيسر لأحد سواه من السياسيين معرفته.
فالعراق الذي يتفكك اليوم هو صناعة استعمارية، سبق لسياسيي الغرب أن حاولوا الترويج لها وتسويقها في أوقات مختلفة، قبل الاحتلال الاميركي وبعده. وما الحديث الذي كان يتكرر عن حق الشعب الكردي في تقرير مصيره إلا نوع من التمهيد لذلك المشهد الذي وضعنا البرزاني بجرأة في صورته.
وكما أرى فان البرزاني انما قصد الحديث عن واقع حال يعيشه العراق، في ظل عجز ما يسمى بالحكومة المركزية عن التوصل إلى صيغة اتفاق سياسي، يكون بمثابة حل لمشكلات الحكم التي صارت تتفاقم مع الوقت، لتتحول إلى ذرائع للقطيعة السلبية ومن ثم انتقال الحوار من فضائه السياسي إلى خنادق القتال.
فإذا ما كان سياسيو بغداد غير قادرين على أن يمسكوا بمبادرة الحل السياسي الذي من شأنه أن ينهي الطابع العدواني لخصوماتهم، فإن ذلك يعني بالضرورة أنهم سيكونون عاجزين عن الوصول إلى النظام الذي يكرس فيه القانون وحدة العراق من غير أن تُهضم فيه حقوق مكوناته.
العراق اليوم هو في حقيقته كيان مفكك. حكومته المركزية لا تملك سوى أن تلحق الضرر بشعبه، ما إن تجد إلى ذلك سبيلا. وما يحدث الآن في الانبار، غرب العراق انما يشكل برهانا ساطعا على طبيعة الوضع الاشكالي الذي يمكن أن يقع فيه أي جزء من اجزاء العراق يرفع سكانه أصواتهم بالاحتجاج على ساسيات الحكومة الاقصائية.
درس الانبار هو تفصيل مأساوي واحد من سيرة موجعة لبلد، لا يملك سياسيوه ما يكفي من الحس الوطني للحفاظ عليه موحدا واستنهاض مصادر قوته الذاتية، بل هم يعملون عكس ذلك تماما، حين يدفع به سلوكهم الطائفي إلى حافات الهاوية.