الغاز الروسي يصل إلى أوروبا عبر «السيل التركي»

حققت روسيا تقدماً ملموساً في تنفيذ استراتيجيتها القاضية بالتخلص من اعتمادها على شبكة الخطوط الأوكرانية لنقل الغاز إلى أوروبا بحلول عام 2019، وواصلت جهودها الديبلوماسية لتذليل العقبات المتبقية لإيصال الغاز الروسي إلى أوروبا بطرق بديلة ووفقاً لآليات جديدة.

وأعلنت شركة «غازبروم» الروسية التوصل إلى اتفاق مع الجانب التركي يتضمن الإنتهاء من مد خط «السيل التركي» لنقل الغاز الروسي عبر قاع البحر الأسود في كانون الأول (ديسمبر) 2016، إضافة إلى تحديث شبكة «السيل الأزرق» الذي ينقل حالياً معظم حاجات تركيا من الغاز الروسي.

وفيما كثّف الكرملين إتصالاته مع اليونان للتوصل إلى اتفاق يضمن بناء خط أنابيب لإيصال الغاز إلى أوروبا عبر بلدان في البلقان والنمسا، كشفت مصادر مقربة من «غازبروم» عن نية لطي صفحة الخلافات مع المفوضية لمنع الإحتكار من دون اللجوء إلى القضاء. وتوصل الجانبان الروسي والتركي إلى الاتفاق عقب لقاء جمع رئيس «غازبروم» ألكسي ميللر، ووزير الطاقة التركي تانر يلدز، في أنقرة قبل أيام. وأعلن ميللر إن شركته ستحدد جدولاً زمنياً للإنتهاء من بناء خط «السيل التركي» لبدء ضخ الغاز فيه نهاية 2016. ويلبي الخط الجديد جزءاً من حاجات تركيا المتزايدة من الغاز.

وفاجأ الإتفاق الجديد بين «غازبروم» والجانب التركي معظم المراقبين. ففي نهاية آذار (مارس) الماضي لمّح الأتراك إلى أن الانتهاء من تشييد «السيل التركي» حتى نهاية 2016 غير واقعي، لكن الشركة الروسية إستخدمت الدراسات السابقة لبناء «السيل الجنوبي» عبر قاع البحر الأسود. ويرى خبراء ان 650 كيلومتراً من مسار «السيل التركي» يتطابق مع مسار الخط السابق، ما يفسر قصر الفترة الزمنية التي حددتها الشركة الروسية لإتمام العمل بهذا المشروع.

ويبرز العامل الإقتصادي واضحاً في محاولات «غازبروم» لتسريع الإنتهاء من خط «السيل التركي»، فالأرباح السنوية الصافية لعملاق الغاز الروسي تراجعت نحو 86 في المئة عام 2014 مقارنة بالعام السابق، بسبب تداعيات الأزمة الأوكرانية وتراجع سعر صرف الروبل، والعقوبات الغربية.

وطُرحت فكرة خط «السيل التركي» للمرة الأولى في نهاية العام الماضي أثناء زيارة بوتين تركيا ونعى فيها في شكل نهائي مشروع روسيا لبناء «السيل الجنوبي»، وأعلن عن نية بلاده المضي في مشروع مشترك مع تركيا لإيصال الغاز الطبيعي الروسي إلى جنوب أوروبا ووسطها من دون المرور بالأراضي الأوكرانية.

وعلى هامش زيارة بوتين وقعت شركتا «غازبروم» الروسية و»بوتاس» التركية، مذكرة تفاهم لبناء خط أنابيب لنقل الغاز من روسيا إلى تركيا بطاقة تصل إلى 63 بليون متر مكعب من الغاز سنوياً. ويبلغ إجمالي طول شبكة أنابيب «السيل التركي» 1100 كيلومتر منها نحو 900 كيلومتر عبر قاع البحر الأسود، إضافة إلى 200 كيلومتر في البر التركي. وستحصل تركيا على نحو 13 بليون متر مكعب من الغاز، على أن يتابع الخط سيره باتجاه حدود اليونان التي ستحصل على ثلاثة بلايين متر مكعب فيما يخصص 47 بليوناً للتصدير إلى البلدان الأوروبية الأخرى.

ويسخّر الكرملين أدواته الديبلوماسية للدفع بمشروع «السيل التركي». فقد تجنبت «غازبروم» الخلافات السياسية المتصاعدة بين أنقرة وموسكو على خلفية زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة إلى يرفان، وتصريحاته بمناسبة الذكرى المئوية لمجازر الأرمن، وما تبعها من ردود للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كما استطاع الكرملين التخفيف من تأثير العلاقات التركية اليونانية المتوترة على سير العمل في المشروع.

وبعد ساعات على الإتفاق مع تركيا أعلنت موسكو أن بوتين بحث في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء اليوناني أليكسيس تسيبراس، قضية بناء خط أنابيب لنقل الغاز الروسي عبر الأراضي اليونانية. وأشار الكرملين إلى أن بوتين أكد استعداد بلاده للنظر في إمكان تمويل الشركات اليونانية المشاركة في بناء انابيب نقل الغاز على الأراضي اليونانية كجزء متمم لخط «السيل التركي». وفي مطلع الشهر الماضي تلقت موسكو دعماً واضحاً لمسارات مشروعها الجديد عبر شرق أوروبا الذي كشف عنه بوتين مطلع شباط (فبراير) أثناء زيارته المجر. ووقع وزراء تركيا واليونان وصربيا ومقدونيا والمجر في بودابست إعلاناً للتعاون في مجال الطاقة بهدف إنشاء «طرق مجدية إقتصادياً لتنويع مصادر الغاز الطبيعي ومساراته».

ويملك «السيل التركي» حظوظاً كبيرة ليبصر النور نظراً الى توافر الكميات اللازمة من الغاز لتشغيل الخط، وبراعة الكرملين في استغلال حاجة اليونان لمصادر دخل في مواجهة الأزمة الإقتصادية الخانقة التي تعيشها، إضافة الى مخاوف بلدان البلقان وشرق أوروبا من وقف امدادات الغاز الروسي، بخاصة أن بعض هذه البلدان يعتمد على «غازبروم» بأكثر من 90 في المئة لتأمين الكميات اللازمة لاقتصاداته والتدفئة المنزلية.

لكن تجارب السنوات الأخيرة تشي بأن التنافس على خطوط إمدادات الغاز لن يتوقف، فالولايات المتحدة تواصل ضغوطها على اليونان وحكومات أخرى من أجل وقف التنسيق مع موسكو في الطاقة. وقبل أعوام اضطرت أثينا إلى الموافقة على مشروع «خط الأنابيب العابر للأدريارتيكي» المخصص لنقل الغاز من بحر قزوين والشرق الأوسط إلى أوروبا. وأوقفت بلغاريا مشاركتها في مشروع «السيل الجنوبي» على رغم الإغراءات الروسية الكبيرة. كما تطمح واشنطن إلى زيادة صادراتها من الغاز المسيل إلى أوروبا.

وقد تواجه «غازبروم» مشكلات كبيرة في إيجاد مستثمرين أوروبيين لتحضير البنية التحتية وبناء أنابيب جديدة، نظراً الى قوانين حزمة الطاقة الثالثة التي تحظر على شركات أجنبية الإستحواذ على خطوط نقل في داخل الاتحاد الأوروبي. ولعل الأهم هو أن أوروبا ليست في وارد تغيير استراتيجيتها للتخفيف من اعتمادها الكبير على الغاز الروسي.

وتأمل بروكسيل في مشاركة إيران وبلدان شرق أوسطية في مشروع نقل الغاز من أذربيجان وتركمانستان إلى جنوب أوروبا لضمان تنويع مصادر الغاز. ولكن الحديث عن انتهاء مشكلات الطاقة مع أوروبا مازال بعيداً، بسبب اختلاف النظرتين حول أمن الطاقة، كما لا توجد ضمانات واضحة في أن يكون «السيل التركي» مجدياً من الناحية الإقتصادية من دون انتظار رد بروكسيل.

+ -
.