المسارات الخفيّة لاختراق السويداء

مازن عزي – كاتب وصحافي سوري

إعلان

إعلان

إعلان

إعلان

إعلان

إعلان

إعلان

سبق اقتحام السويداء تحضيرات في دمشق لبناء مجموعات عسكرية وأمنية تابعة لـ”الإدارة الانتقالية” داخل السويداء، وتحضيرات سياسية لاختراق السويداء عبر التقرّب من وجهاء اجتماعيين ورجال دين وسياسيين.

الموجة الأولى للعمليّة العسكرية- الأمنية ضدّ السويداء، التي قادتها قوّات وزارتي الدفاع والداخلية في “الإدارة الانتقالية”، بمشاركة عناصر متطرّفة وأخرى عشائرية، بين 13- 16 تمّوز/ يوليو الماضي، تضمّنت بشكل رئيسي عملاً مشتركاً مع ثلاثة مجموعات عسكرية وأمنية درزية صغيرة موالية لـ”الإدارة الانتقالية”، وأيضاً محاولة دؤوبة لانتزاع غطاء سياسي من وجهاء وسياسيين دروز.

هذا التنسيق والتجهيز للـ”عمليّة”، لم يكن وليد اللحظة، بل سبقه تحضيرات لبناء مجموعات عسكرية وأمنية تابعة لـ”الإدارة الانتقالية” داخل السويداء، وتحضيرات سياسية لاختراق السويداء عبر التقرّب من وجهاء اجتماعيين ورجال دين وسياسيين.

وإذ يركّز هذا المقال على الدور العسكري والأمني للمجموعات الدرزية الثلاثة، فإنه لا يعتبر الدور السياسي والاجتماعي مؤامرة، بل حسابات لفاعلين محلّيين تغيّرت وتبدّلت مع تطوّر الأحداث، أغلبهم سرعان ما تراجعوا عن مواقفهم السابقة مع تكشف الفظائع والجرائم ضدّ الإنسانية، ذات المنحى الإبادي التي ارتكبتها “الإدارة الانتقالية” ضدّ الدروز.

الموضوع شديد الحساسية، ولذا، فإن هذا التقرير، يعتمد بشكل رئيسي على معلومات منشورة علناً، ومقابلات حصرية أجراها الباحث، مع مصادر وشهود مُطلعين على مجريات الأحداث، والمفاوضات، والتحضيرات للعمليّة العسكرية، وعلى وقائعها على الأرض.

وإذ يتجنّب المقال ذكر أسماء السياسيين والوجهاء ورجال الدين، فإنه يوضح بشكل مفصّل الدور العسكري والأمني الذي لعبته المجموعات العسكرية والأمنية الدرزية الثلاثة الموالية لـ”الإدارة الانتقالية”.

الغطاء السياسي
سعت “الإدارة الانتقالية” منذ سقوط النظام لاستقطاب مرجعيّات أهلية، دينية، مجتمعية وسياسية درزية من السويداء، لتشكيل كتلة ضاغطة بوجه الشيخ حكمت الهجري، الرقم الصعب في العلاقة مع النظام الجديد في دمشق. مواقف الشيخ الهجري من السلطة في دمشق كانت تزداد تشدّداً مع إخفاق “الإدارة الانتقالية” أمام كلّ استحقاق واجهها؛ من مؤتمر النصر، ومؤتمر الحوار، والإعلان الدستوري، إلى الحكومة الانتقالية، حيث كان يتّضح تباعاً مقدار احتكار “هيئة تحرير الشام” للسلطة، ورفضها أي عمليّة تشاركية ديمقراطية، على رغم إعلانها حلّ نفسها.

المجازر ضدّ العلويين في آذار/ مارس الماضي، ثم الهجمات الطائفية التي استهدفت مجتمعات الدروز في جرمانا وصحنايا في نيسان/ أبريل وأيّار/ مايو الماضيين، جعلت مواقف الشيخ الهجري أشدّ تصلّباً ورفضاً للانخراط في مشروع “الإدارة الانتقالية”، التي عملت على استقطاب الوجهاء والسياسيين الدروز المتململين من صعود شعبية الشيخ الهجري، ممن يَصِفُون دوره أحياناً بـ”المعطّل” للاتّفاق مع “الدولة” الناشئة في دمشق.

الاستقطاب أخذ شكلاً سياسياً عبر مبادرات متعدّدة، كان أنضجها حراك، لم يشهد النور، تحت مسُمى”لا للتفرّد بقرار السويداء”، وكان متوقّعاً الإعلان عنه نهاية شهر آذار/ مارس 2025، بحيث يضمّ وجهاء اجتماعيين وروحيين، وسياسيين في المحافظة، في حضور طرف لبناني درزي بارز. الحراك، بحسب أحد القائمين عليه، الذي تحدّث إلى الكاتب، لم يترجم عملياً على أرض الواقع، لكنّ اختيار الوجهاء والزعامات الروحية المشاركين في المبادرة لم يكن عشوائياً، بل استند إلى تقسيمات الزعامات المحلّية الدرزية التاريخية، ومناطق نفوذها، ما أعطى للمبادرة وزناً في ريف السويداء الغربي وفي مدينة السويداء.

وإذا كان الحضور السياسي هامشياً ولا عمق اجتماعياً له، فإن وجود هؤلاء الوجهاء ورجال الدين، قرع جرس إنذار لدى الرئاسة الروحية للموحّدين الدروز برئاسة الشيخ الهجري، الذي ضغط لاحتواء الموقف ودفع المرجعيات الاجتماعية والدينية للانسحاب منه تباعاً.

خلال الهجمات المسلّحة التي قادتها “الإدارة الانتقالية” في نيسان/ أبريل وأيّار/ مايو الماضيين ضدّ دروز جرمانا وصحنايا بريف دمشق، وقرى ريف السويداء الشمالية والغربية، توصّل الطرفان إلى اتّفاق 1 أيّار/ مايو، الذي ينصّ على أن يكون “الأمن العامّ” داخل المحافظة من أبناء السويداء، وحماية السلطة لطريق دمشق- السويداء.

لكن يبدوا أن السلطة في دمشق اعتبرت ما حدث بمثابة نكسة سياسية لها، وبدأت تعمل على أكثر من محور؛ في رهان على التوتّرات على الطريق بين العاصمة والمحافظة الجنوبية، وإثارة النعرات بين الدروز وعشائر البدو، ومواصلة الضغط على وجهاء اجتماعيين وروحيين لكسب ولائهم، وتخليق زعامات درزية بديلة.

محاولة صناعة زعامات درزية جديدة موالية للإدارة الانتقالية، مرّت عبر عدّة قنوات محلّية وإقليمية بتنسيق مع طرف درزي لبناني بارز، للتركيز على شخص ليث البلعوس، ما فتح أمامه أبواب الدبلوماسيين والسياسيين الغربيين، والإعلام العربي.

في حزيران/ يونيو 2025، زار وفد من سياسيين دروز من السويداء، الرئيس الانتقالي في دمشق. وبحسب شهادة أدلى بها أحد الحاضرين للكاتب، فقد مرّت خلال الحديث لحظات غير مريحة، أطلق فيها الشرع، تهديدات مبطّنة بشنّ عمليّة عسكرية وشيكة إذا لم تخضع السويداء لـ”الدولة”.

الوفد سبق أن تواصل قبل زيارته دمشق، مع الوجهاء المشاركين أنفسهم في وقت سابق، في مبادرة “لا للتفرّد بقرار السويداء”، وحظي بموافقتهم المبدئية، قبل أن يتوالى رفضهم حضور الاجتماع لأسباب مختلفة. ولأن الوفد لم يكن على قلب واحد، فقد انسحب بعض المشاركين لاحقاً من أي تقارب مع السلطة، بعد ما وصفه المصدر بـ”اكتشاف عدم جدّيتها في بناء إجماع سياسي وطني وتركيزها على منطق الهيمنة بالقوّة وإرضاخ المجتمعات المحلّية بالعنف”.

وبحسب شهادات خاصّة حصل عليها الكاتب، فقد عُقد خلال الأيّام القليلة السابقة على حملة تمّوز/ يوليو العسكرية، على الأقلّ اجتماع واحد في دمشق، حضره من طرف “الإدارة الانتقالية” وزير الداخلية، مع بضعة سياسيين من السويداء. ويؤكّد حدوث الاجتماع شهادة خاصّة حصل عليها الكاتب، أُخذت قبل اقتحام السويداء بأيّام، من أحد المسؤولين السياسيين في فصيل محلّي درزي، قال فيها إنهم أمّنوا لقاءات بين تيّارات سياسية من السويداء، وبين مسؤولين في “الإدارة الانتقالية”، في ما وصفه بـ”حقناً للدم”.

بحسب مصادر متقاطعة تواصل معها الكاتب، فقد عُرضت خلال الاجتماع خطوط عامّة عريضة لعمليّة عسكرية- أمنية وشيكة في السويداء، وسط تطمينات بأنها ستكون منخفضة مستوى العنف، والهدف منها نشر “الأمن العامّ” في المحافظة، واستعادة دور “الدولة”، وهذا ما تكرّر لاحقاً على لسان الإعلام الرسمي التابع للإدارة الجديدة، ويبدو أن العرض تطرّق إلى تشكيل مرجعيّة “سياسية” جديدة للمحافظة، قد تضمّ بعض السياسيين الحاضرين للاجتماع.

ويبدو أنه لم يخرج جميع المشاركين في الاجتماع بانطباع إيجابي حول المحتوى الذي عُرض أمامهم، وسط تخوّف من خروج الأمور عن السيطرة. السياسيون الحاضرون للاجتماع، يمثّلون تيّاراً قليل الحضور والتأثير وشبه معزول اجتماعياً وسياسياً في السويداء، نتيجة طروحاته الطوباوية حول حصريّة السلاح بيد “الدولة”، وعدم القدرة على استيعاب بنية السلطة الجديدة في دمشق وخلفيّتها العقائدية. لذا، فإن حجم تأثير هذه المجموعة من السياسيين كانت شبه صفرية، والغرض منها إعلامي، استغلّته “الإدارة الانتقالية” لإظهار وجود تيّار سياسي موالٍ لها في السويداء.

ويبدو من شهادات متقاطعة، أن أفكاراً عامّة عن العمليّة العسكرية الوشيكة، قد نُقلَت إلى الوجهاء والمرجعيّات الروحية والأهلية أنفسهم، الذين سبق أن تواصلت معهم القنوات الحكومية والأمنية في حراك “لا للتفرّد بقرار السويداء”. بحسب الشهادات، التواصل تمّ عبر قنوات حكومية وأمنية، وأيضاً عبر بعض السياسيين الذين زاروا دمشق قبل أيّام. ويكتنف الكثير من الغموض، مقدار الشفافيّة التي نُقلت فيها التصوّرات عن العمليّة العسكرية لأولئك الوجهاء. مصدر مقرّب من أحد الوجهاء، أكّد أن الوعود الرسمية كانت قاطعة بعدم حدوث أعمال عنف، إذا ما سلّمت المناطق التي يمثّلها أولئك الوجهاء سلاحها للقوّات المهاجمة من دون قتال.

الخطّة العسكرية
بغضّ النظر عن الاجتماع وما عُرضَ فيه من أفكار، عمليّة اقتحام السويداء، تضمّنت بحسب مصادر مطّلعة على الخطّة، ومقرّبة من “الإدارة الانتقالية”، عناصر متعدّدة: السماح باستفزازات متواصلة على طريق دمشق السويداء عبر حاجز للأمن العامّ، عناصره من عشائر بدو اللجاة في منطقة المطلّة في ريف دمشق، لخلق نزاع محلّي بين الدروز وعشائر بدو المحافظة (الشأن الذي سبق أن عرفته المنطقة سابقاً) ثم تدخّل “القوّات الحكومية” بداعي “فض النزاع” بين الطرفين، وفرض سيطرة “الأمن العامّ” على المحافظة، وهو ما حدث بين 13- 16 تمّوز/ يوليو الماضي. وفي حال فشل الهجوم، نتيجة تدخّل إسرائيلي محتمل، فقد وُضعت خطّة بديلة تقوم على ترك عناصر عشائرية مسلّحة لتقود هجوماً ضدّ الدروز، وهذا ما حدث لاحقاً بين 16- 20 تمّوز/ يوليو الماضي.

وبحسب مصادر خاصّة، تضمّنت العمليّة تطبيقاً للعنف، لدفع الكتل العسكرية والسياسية الرافضة لسيطرة “الإدارة الجديدة” للاستسلام، على أن يتزامن ذلك مع إصدار المرجعيّات التي سبق التواصل معها والتقرّب منها في مراحل سابقة، بياناً يعترف بسلطة “الدولة”، وقبول تسليمها السلاح وتفكيك الفصائل المحلّية. الطرف الذي سيرفض بياناً كهذا، سيُعامل على أنه ميليشيا خارجة عن “الدولة”، وسيتمّ قتاله واستباحة مناطقه وتدميرها، وهذا ما اتّضح في طبيعة التعابير التي استُخدمت في الإعلام الرسمي كـ”عصابات خارجة عن القانون”، و”ميليشيات الهجري”، أي محاولة رسم صورتين مختلفتين للسويداء، الأولى: مسلّحة، ترغب في الانضواء تحت راية “الدولة” وتسليم السلاح، والثانية: “خارجة عن القانون” و”انفصالية” وتُتّهم بـ”الخيانة”.

في المقابل، لم يكن لدى “الإدارة الانتقالية” أي عرض سياسي للدروز بعد العمليّة، سوى وعود بتعيينات هامشية لبعض السياسيين الموالين لها في مواقع حكومية محلّية أو بدمشق، غير ذات أهمية.

العمليّة العسكرية كانت تتضمّن تنسيقاً مع مجموعتين مسلّحتين درزيتين: مجموعة ليث البلعوس- بلدة المزرعة غرباً، ومجموعة عدنان أبو العز من بلدة حزم شمال المحافظة، ومجموعة أمنية يقودها سليمان عبد الباقي في مدينة السويداء، مقابل وعود بمناصب إدارية وعسكرية.

أدوار ليث البلعوس
يمثّل ليث البلعوس حالة نكوص عن المسار الذي رسمه والده الشيخ وحيد البلعوس مؤسّس حركة “رجال الكرامة”، الذي اغتاله نظام الأسد في العام 2015. تصرّفات البلعوس الشخصية، وسعيه لفرض زعامته عليها، دفعت حركة “رجال الكرامة” إلى نبذه منها في العام 2016.

في العام 2018، أسّس البلعوس مجموعة مسلّحة صغيرة عُرفت باسم “قوّات شيخ الكرامة”، لكنّها سرعان ما تورّطت في أعمال الخطف للفدية، وغيرها من التهم. مجموعة البلعوس المسلّحة شهدت صعوداً وهبوطاً، بحسب الأحداث، والداعمين. في لحظة الهبّة الشعبية ضدّ عصابة راجي فلحوط في العام 2022، لم يتجاوز عدد مجموعة البلعوس بضع عشرات، لكنّها قامت بإعدام ميداني لبعض الأسرى العزّل من عصابة فلحوط، في ساحة المشنقة في السويداء، من دون محاكمة، ومن دون أي توافق مع بقيّة الفصائل.

علاقة البلعوس بـ”هيئة تحرير الشام” قديمة وتسبق سقوط نظام الأسد، وأجمعت شهادات متقاطعة خاصّة حصل عليها الباحث، بأنها تعود إلى منتصف العام 2024، عبر أمنيين من الهيئة أبرزهم أبو البراء المكلف بالملفّ الدرزي. خلال عمليّة تمّوز/ يوليو الماضي، لم يزد عدد مجموعة البلعوس المسلّحة على 17 مقاتلاً درزياً من بلدة المزرعة، البقيّة من عشائر بدو البلدة. دور البلعوس كان محورياً، إذ تركّز على طمأنة أهالي المزرعة، بأن ضرراً لن يصيبهم، مع دخول قوّات “الإدارة الانتقالية”، إن لم يقاوموها.

القوّات المهاجمة اعتمدت في خطّة اقتحامها السويداء، على الدخول من ريف درعا الشرقي إلى قرية الدور، ومنها إلى بلدة المزرعة غرب مدينة السويداء لتصبح نقطة تجمّع رئيسية لها. وبالفعل جزء كبير من أهالي البلدة صدّقوا البلعوس، ولم تتعرّض القوّات المقتحمة، ليلة 13- 14 تمّوز/ يوليو الماضي، لأي صدّ عسكري حقيقي، باستثناء بضع محاولات فردية على أطراف البلدة. ومع ذلك، تعرّض الأهالي إلى عمليّات قتل وإعدام ميداني متنقّلة من بيت إلى بيت، ونهب وحرق للمساكن، ما تسبّب بموجة نزوح كبيرة منها.

دور البلعوس تمثّل بإتاحة دخول أرتال القوّات المهاجمة إلى بلدة المزرعة عبر طرق زراعية، بحيث تتجاوز حواجز الفصائل الدرزية الأخرى، ما يعطّل إمكانيّة التنبيه والتحذير المتقدّم لبقيّة الفصائل في عموم المحافظة. وكذلك في تأمين الطرق الفرعية لنقل تلك القوّات المهاجمة إلى قرية ولغا، وهي آخر قرية قبل دخول مدينة السويداء. بحسب شهادة خاصّة لأحد المطّلعين على الاتّصالات عبر القبضات اللا سلكية، فإن مشاجرات لفظية عنيفة وقعت بين قائد إحدى المجموعات الدرزية المدافعة، وبين البلعوس شخصياً، قال له إن جماعته المسلّحة تُطلق النار عليهم بشكل مباشر، وتحضّه على التوقّف عن مساندة القوّات المهاجمة.

قائد العمليّة العسكرية، المسؤول الأمني عن السويداء في الإدارة الانتقالية أحمد دالاتي، وصل إلى بيت البلعوس في المزرعة، ومنه أجرى مجموعة مكالمات مع زعماء ووجهاء دروز، وقادة فصائل محلّية مسلّحة، كما ظهر في تسجيل مصوّر سرّبته “الإدارة الانتقالية”.

وليس البلعوس وحده من تعامل مع “الإدارة الانتقالية” في المزرعة، إلا أنه ظلّ صاحب المجموعة العسكرية الأكبر، هناك أيضاً باسم الحمود، قائد عصابة درزية أخرى في بلدة المزرعة. الحمود من الأسماء المعروفة في عالم الجريمة المنظّمة في السويداء، وكان يُعتبر بمثابة الذراع العسكرية لأحد الوجهاء الاجتماعيين في ريف السويداء الغربي. في شهادة خاصّة لأحد المقرّبين من الحمود، أكّد أن الحمود كان قد أعلن إسلامه بعد فترة قصيرة من سقوط النظام، ومعظم عناصر مجموعته من عشائر بدو بلدة المزرعة.

يُضاف إلى التسلّل والاختراق الذي ساهم فيه البلعوس، تسليم بعض الوجهاء المحلّيين مناطقهم من دون قتال في الريف الغربي للمحافظة، خاصّة بلدة المجدل ومحيطها، بلدة عرى ومحيطها، قرية سهوة البلاطة.

وبحسب شهادات خاصّة حصل عليها الكاتب، فقد تلقّى وجهاء تلك المناطق وعوداً من قيادة العمليّة العسكرية في “الإدارة الانتقالية” مباشرة أو عبر وسطاء، بأن تسليم السلاح وعدم مواجهة القوّات المقتحمة، سيضمن سلامة الأهالي.

لكنّ ما حدث هو العكس تماماً، إذ تعرّضت كلّ المنطقة إلى عمليّات قتل متنقّلة من بيت إلى بيت، وحرق للممتلكات، ما خلق موجة نزوح كبيرة باتّجاه مدينة السويداء والريف الجنوبي. وجهاء تلك المناطق، ومعظمهم من المشاركين في حراك “لا للتفرّد بقرار السويداء”، ربما تعرّضوا للخديعة، إذ تعرّضت دورهم ومساكنهم للتدمير والتخريب، وتعرّض بعضهم شخصياً للإهانة والضرب.

عدنان أبو العز و سليمان عبد الباقي
المجموعة العسكرية الثانية التي يقودها عدنان أبو العز، أقلّ أهمّية من مجموعة البلعوس، ولا تحظى بتركيز إعلامي، ولكنّها ساهمت بقوّة، في تسهيل دخول قوّات “الإدارة الانتقالية” إلى ريف السويداء الشمالي وقرى حزم، والصورة الكبيرة، ورضيمة اللوا وغيرها.

بينما المجموعة الأمنية، فهي تتبع لسليمان عبد الباقي، وعملت على تشكيل خلايا أمنية في مناطق متعدّدة، خاصّة في مدينة السويداء. خلال الحرب السورية، كان عبد الباقي قد أسّس مجموعة مسلّحة باسم “تجمّع أحرار الجبل“، لم تتجاوز في أحسن أحوالها بضع عشرات من المقاتلين، وغالباً ما تدخّلت في حلّ قضايا المخطوفين لأجل الفدية، كطرف وسيط. وغالباً، ما تشغل عصابات الخطف للفدية معها طرفاً وسيطاً، بينها وبين ذوي المخطوف، ويعمل على إخراجه بطرق سلمية، ويتقاسم مع العصابة جزءاً وازناً من الفدية.

منذ سقوط نظام الأسد، عبد الباقي ظهر إلى جانب أحمد الشرع أكثر من مرّة، وتمّ تصديره كزعيم درزي في الإعلام الرسمي. مصادر خاصّة أكّدت أن علاقة عبد الباقي بـ”هيئة تحرير الشام” تعود إلى أواخر العام 2023، وهو على تنسيق مع الأمني في “هيئة تحرير الشام” أبو البراء، وأنه خلال الأسبوع السابق على اقتحام السويداء، عُقدت اجتماعات متواترة حضرها عبد الباقي مع مسؤولين أمنيين وعسكريين في “الإدارة الانتقالية”، تمّ اطلاعه فيها على مجريات العمليّة، ووُزعت فيها المهامّ على الخلايا الأمنية المرتبطة به.

بداية “فضّ النزاع”
مراسل محلّي من سكّان منطقة قريبة من حيّ المقوس، أكّد في شهادة خاصّة، أنه تعرّف إلى عناصر إحدى الخلايا التابعة لعبد الباقي، وهم يطلقون النار من دون سابق اشتباك، يوم 14 تمّوز/ يوليو الماضي، على حيّ المقوس في مدينة السويداء، الذي تسيطر عليه مجموعة من آل البدّاح المنضوية في “تجمّع عشائر الجنوب”، الذي يدعمه ويموّله الشيخ العشائري راكان الخضير المقرّب من “الإدارة الانتقالية”.

ومباشرة ردّ “تجمّع عشائر الجنوب”، بقصف عشوائي بالرشاشات على مواقع متعدّدة في المدينة. وسرعان ما تحوّلت منطقة المقوس إلى ساحة حرب، بعدما توجّهت فزعات درزية على غير دراية بالمخطط، وبدأت قتال مجموعات “تجمّع عشائر الجنوب” في الحيّ، سقط خلالها قتلى من الطرفين، وسُجّل أيضاً سقوط قتلى مدنيين، واحراق منازل، في القتال المتنقّل من حارة إلى أخرى.

الاشتباك المسلّح في المقوس، استمرّ يومين، وأعطى ذريعة لقوّات “الإدارة الانتقالية” لدخول المقوس لـ”فضّ النزاع” بين الطرفين. مع ساعات صباح 15 تمّوز/ يوليو، وصلت قوّات “الإدارة الانتقالية” إلى الحيّ، وظهر المتحدّث باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا، واقفاً على سطح سيّارة فان، مخاطباً أبناء العشائر المتجمعين حوله، ومشجّعاً لهم على “فرض الأمن” في السويداء.

وهنا، بدأت الأخبار عن ارتكاب انتهاكات بحقّ البدو تتصاعد، وبدأت إدارة دمشق تركّز على أن الصراع بدوي- درزي، وأن “القوّات الحكومية” هي مجرّد طرف يتدخّل لفضّ النزاع بينهما.

مصادر خاصّة، أشارت إلى أن خليّة أمنية دلّت القوّات المقتحمة على بيوت محدّدة لاقتحامها وسرقتها وارتكاب انتهاكات فيها، في قطاع حيّ المشفى، حيث يقطن عبد الباقي. المصادر أكّدت أن أغلب البيوت التي تمّ اقتحامها هي لأغنياء، أو معارضين لـ”الإدارة الانتقالية”. قوّات “الإدارة الانتقالية” سيطرت يومي 15 و16 تمّوز/ يوليو على المستشفى الوطني، بعد تعرّضه للقصف، وقتلت عدداً من المرضى واحتجزت كادر المستشفى الطبّي، ووضعت دبابة على مدخله ونشرت قنّاصين على سطحه.

الضغط على المرجعيّات والفصائل المحلّية
العمليّة المباغتة التي شنّتها “الإدارة الانتقالية”، أوقعت بعض فصائل السويداء المحلّية، الكبيرة منها والصغيرة، في حيرة من أمرها، وبان التشتّت عليها، وسط عدم قدرتها على أخذ زمام المبادرة، وانهيار خطوطها الدفاعية الأولى مع عمليّة الالتفاف التي ساهم فيها ليث البلعوس وعدنان أبو العز، والعمل الخلفي الذي نفّذته الخلايا الأمنية.

لذا، في كثير من الأحيان، قاتلت تلك الفصائل بشكل غير متناسق، بالاعتماد على مقاتليها المحلّيين في المناطق التي تعرّضت للهجوم. مثلاً بيرق قرية تعارة التابع لحركة “رجال الكرامة” قاتل حتى النهاية، من دون تنسيق مع غرفة عمليّات الحركة التي فقدت القدرة على الاتّصال والتحرّك. أمر مماثل انطبق على معظم الفصائل، حيث تحوّل القتال إلى دفاع أهلي وشعبي شارك فيه جميع القادرين على حمل السلاح.

أمر آخر يُضاف إلى التخبّط الذي وقعت فيه الفصائل المحلّية، هو التلاعب والضغط اللذان قام بهما أحمد دالاتي، قائد عمليّة “الإدارة الانتقالية” العسكرية. في اتّصال أجراه أحمد الدالاتي، من منزل ليث البلعوس، ليلة 14 تمّوز/ يوليو، تحدّث مع شكيب عزّام قائد “لواء الجبل”، وبحسب التسجيل المصوّر المسرّب.

دالاتي قال خلال الحديث إن أبو البراء اتّصل بأحدهم (يُفترض أن يكون من السويداء) قبل بدء العمليّة، وأخبره بضرورة الاجتماع في إزرع في درعا، لكنّ الطرف الدرزي طلب نقل الاجتماع إلى بيت ليث البلعوس في بلدة المزرعة. عزّام قال لدالاتي، إنه جاهز للاجتماع، وكذلك مندوب حركة “رجال الكرامة”، بشرط وقف القتال أولاً. دالاتي طلب من عزّام الحضور للاجتماع مدّعياً أن قوّاته “لا تُطلق النار إلا ضدّ من يبادرها بذلك، وأن الدولة تدخل إلى مكانها”، وأضاف أنه تكلّم شخصياً مع جميع الوجهاء ورجال الدين، وسمّى كثيرين منهم. تسريب الاتّصال من قِبل “الإدارة الانتقالية” ربما كان مقصوداً، لتحويل جميع من ذُكرت أسماؤهم إلى متواطئين من منظور أهلي، ومتخاذلين من منظور عسكري.

بموجب هذه الاتّصالات، والسعي إلى التهدئة وحقن الدم والتوصّل إلى حلّ سياسي، يبدو أن بعض الفصائل الدرزية فضّلت عدم المواجهة الكاملة، والاكتفاء بالردّ على مصادر النيران. وكذلك الأمر، مع المرجعيّات الاجتماعية والروحية، التي سبق أن شاركت في اتّصالات مع “الإدارة الانتقالية”، فقد فضّلت التوصّل إلى “حلّ سلمي يحقن الدم”، حتى لو كانت الكلفة السياسية والعسكرية باهظة.

الضغط العسكري الكبير، وحجم الاختراق الواسع، وسقوط الريفين الشمالي والغربي خلال ساعات بيد قوّات “الإدارة الانتقالية”، ترافق مع ضغط دولي وإقليمي على الشيخ الهجري، الذي أصدر صباح 15 تمّوز/ يوليو بياناً مكتوباً، قبِل فيه بدخول “الأمن العامّ” المحافظة.

بينما الاجتماع الذي دار الحديث عنه في الاتّصال المسرّب بين دالاتي وعزّام، لم يتمّ فعلياً إلا ظهيرة يوم 15 تمّوز/ يوليو، في مقام عين الزمان، دار طائفة الموحّدين الدروز في مدينة السويداء. دالاتي اجتمع وقتها مع ممثّلي الفصائل المحلّية، ومنهم زعيم حركة “رجال الكرامة”، ووجهاء اجتماعيين، وشيخ العقل يوسف جربوع، وممثّل شيخ العقل حمّود الحناوي، لـ”تنسيق وتنظيم دخول قوّات الوزارتين إلى المحافظة”. وخلال الاجتماع، الذي كان يحدث وسط أصوات المدرّعات وإطلاق النار المتواصل في الخارج، صدر بيان عن المجتمعين بقبول دخول “الأمن العامّ” إلى المحافظة.

لكنّ كلّ تلك الأحداث يوم 15 تمّوز/ يوليو، جرت ضمن عمليّة تعتيم إلكترونية شاملة على السويداء، نفّذتها “الإدارة الانتقالية”، تضمّنت قطعاً كاملاً للتيّار الكهربائي، والاتّصالات الأرضية والخلوية عن محافظة السويداء، واستمرت ما بين 14-17 تمّوز/ يوليو.

لذا، مع بدء تكشّف حجم العنف غير المسبوق، والمجازر المتنقّلة في أحياء مدينة السويداء وقرى الريف الغربي، خرج الشيخ حكمت الهجري بكلمة مصوّرة، رفض فيه البيان السابق وسمّاه “إذعاناً وذلّاً”، ودعا إلى المقاومة الأهلية والنفير العامّ. الأخبار المتناقلة عن الاجتياح والمجازر المتنقّلة في المدينة وريفها الغربي، دفعت الأهالي إلى تنظيم مقاومة شعبية على الأرض، وشارك معهم عناصر الفصائل بشكل فردي.

في تلك اللحظات، يمكن اعتبار أن خطّة “الإدارة الانتقالية” بفرض استسلام المرجعيّات الروحية والأهلية قد فشلت، وبدأت المقاومة الأهلية المسلّحة ضدّ القوّات المقتحمة. بعض الفصائل المحلّية، جزئياً أو كلياً، استوعبت الصدمة، وبدأت هجمات معاكسة مع المقاومة الأهلية. ومما لا شكّ فيه، أن انقسامات ظهرت في بنية الفصائل، وبدأت مجموعات كبيرة منها بالتنسيق بشكل منفصل عن قياداتها ضمن غرفة عمليّات مشتركة، ضمّت الحرس الوطني، غالبية حركة “رجال الكرامة”، وفصائل أهلية محلّية، بحسب ما قالته مصادر مطّلعة للكاتب.

بنية الاختراق وأدواته
تبدو مجريات اقتحام السويداء كنتيجة عملية منهجية متدرّجة جرى تنفيذها على مستويات متشابكة. أوّلها بناء جسور مع جماعات سياسية واجتماعية مختلفة، بغرض دفعهم إلى قبول اتّفاق جائر تحت الضغط العسكري، من باب “حقن الدم”، وتغليب “السلم الأهلي”.

وثانيها إنشاء أذرع عسكرية وأمنية درزية تلقّت تدريباً وتمويلاً مبكراً، وشاركت في رسم خرائط الحركة على الأرض من خلال فتح الممرّات، وتوجيه الأرتال، وإثارة نزاعات موضعيّة، بحسب الشهادات الخاصّة التي حصل عليها الكاتب.

ثالثها إنتاج سردية رسمية تصف الهجوم بأنه تدخّل لإنهاء صراع داخلي، وتثبيت “الدولة”، مع تعتيم كامل لمنع تداول الأخبار المضادّة.

هذه العناصر الثلاثة تحرّكت في توقيت متزامن، ما أتاح انتقال الخطّة من الطرح النظري إلى التنفيذ خلال ساعات محدودة، وأظهر أن العمليّة لم تعتمد على التفوق القتالي وحده، بل على شبكة مركّبة من التحالفات، والتنسيق الاستخباراتي، وإدارة المشهد العامّ، لتحقيق انتصار عسكري، وترجمته السياسية بفرض سيطرة “الدولة”. لكنّ حجم الفظائع، قلب المعادلة، مع اندلاع المقاومة الأهلية، واستيعاب بعض الفصائل المحلّية الصدمة، وموقف الشيخ الهجري الرافض للاتّفاق المفروض بالقوّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

+ -
.