الموت وورقة التوت – إياد مداح

إياد مدّاح

إعلان

إعلان

إعلان

إعلان

إعلان

إعلان

إعلان

إعلان

إعلان

كانت البومةُ تتنقّل من مكانٍ لمكان في الغابة، تروي الحكايات لكلّ من يطلب منها ذلك. كان الرّقود أحبَّ الأشياء إليها، أمّا سرد الحكايات فكان ذريعتها لتُقنع حيوانات الغابة بأنّها ليست كسولة، بل إنّ الراوي الحقَّ يحتاج إلى الهدوء والسكون كي لا يتشتّت تركيزه.

ومن بين الحكايات التي كانت ترويها البومةُ، حكايةٌ لطالما أثارت فضولي، هي حكاية ورقتَي توتٍ كانتا تنتظران عصفَ الريح.
وتقول الحكاية كما روتها البومة:

كنتُ يومًا أحلّق فوق شجرةِ توتٍ أبحث عمّا أسدّ به رمقي، فإذا بورقتين شاحبتين، إحداهما صغيرة والأخرى كبيرة، تتبادلان الحديث.

ولأنّني أحبّ الحكايات، استوقفني حديثُهما، وأدركتُ أنّ فوق أغصان هذه الشجرة حكايةً تستحقّ الإصغاء. اقتربتُ منهما، ولاحظتا وجودي، لكنّهما لم تتوقّفا عن الكلام، فعلمتُ أنّ الأمر ليس سرًّا، وأنّ بإمكاني البقاء دون أن أزعجهما.

دخلتُ تجويفًا في الشجرة، هيّأتُ ذاكرتي، وأصغيت. سمعتُ ورقةَ التوت الصغيرة تسأل، مرتجفةً، جارتَها ورقةَ التوت الكبيرة:

ـ يا جارتي العارفة، أترين أنّ الغد سيكون يومَ موتِنا؟

ـ لا أدري، ربما، وربما لا… فالأمر متعلّقٌ بالريح.

ـ إذًا، طالما أنّ الأمر متعلّقٌ بالريح، فهو الموت على أيّ حال؟

ـ ربما، وربما لا.

ـ وكيف؟ سألتكِ سابقًا ولم تجيبي، هل سقوطُنا يعني موتَنا؟

ـ ربما… وربما هو حياتُنا. قد نورق من جديد، وقد لا نفعل.

ـ دائمًا تجيبينني بـ «ربما»! أوليس لديكِ إجابةٌ أخرى؟

ـ بلى، لكنّ المشكلة في معنى الموت لديكِ.

ـ ماذا تعنين؟

ـ كنتُ أسقط ثم أعود… تسوقني الريح من مكانٍ إلى آخر، يفتّتني كلّ عابر سبيل، لكن في فصل الربيع أعود خضراءَ من جديد. ومع ذلك، أشعر أنّني أموت في كلّ مرة.

ـ وكيف؟ طالما أنّكِ تعودين للحياة من جديد؟

ـ صحيح، كنتُ أتنفّس من جديد، لكنّني لم أكن يومًا صاحبةَ الخيار. أشرب ما يُقدَّم لي، وأطبخ ما يُفرَض عليّ، وأغادر بيتي متى تشاء الريح، وتدوسني أقدام المارّة دون أن أرفع صوتي… أليس هذا هو الموت؟

ـ وماذا عنّي؟ إنّه عامُ تساقطي الأوّل، وأنا خائفة. بعد قليلٍ ستأتي الريح، تقتلعني من مكاني في مؤامرةٍ تحيكها الفصولُ مع الأشجار. نحن الأوراق فقط من لا حولَ لنا ولا قوّة، نحن دائمًا المفعولَ بنا.

ولكن، طالما أنّني سأعود لآكل وأشرب وأتنفّس وألعب مع نسمات الصباح، إذًا تساقطي لا يعني موتي، أليس كذلك؟

ـ ربما… ربما… ربما…

وهنا كانت البومةُ تنهي حكايتها دائمًا، رغم أنّني في كلّ مرة كنتُ أشعر أنّ هناك بقيّةً لم تُروَ بعد. وكان الإحساس الذي يتملّكني دائمًا أنّ البومة نامت في آخر الحكاية، لتبقى كلمة «ربما» حائلًا بيني وبين نهاية الحوار…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

+ -
.