صدر هذا الشهر كتاب جديد عن منظمة المجتمع العلمي العربي، يسبر المضاعفات الصحية للتلوث الإشعاعي الذي نجم عن حروب الخليج في عامي 1991 و2003، ويحتوي حقائق صادمة وأرقاما مرعبة، منها على سبيل المثال لا الحصر أن اليورانيوم المنضب الذي استعمل في العراق يساوي في ذريته ما يعادل 250 قنبلة ذرية.
الكتاب كان تحت عنوان “التلوث الإشعاعي والمضاعفات الصحية لحروب الخليج” للدكتور كاظم المقدادي، وهو أكاديمي وباحث طبي وبيئي عراقي مقيم في السويد، يحمل درجة الدكتوراه في العلوم الطبية، ومتخصص في طب الأطفال وطب المجتمع وفي الصحة والبيئة وفي التلوث الإشعاعي والأضرار الصحية والبيئية لاستخدام أسلحة اليورانيوم.
كما شمل الكتاب فصلا للدكتورة مي الأرناؤوط، تحت عنوان “المضاعفات الصحية لحروب الخليج.. ما هو عمق المأساة؟!”، وهي طبيبة وأكاديمية مستقلة، تحمل درجة الدكتوراه في السرطانيات.
وقدمت للكتاب المديرة العامة لمنظمة المجتمع العلمي العربي الدكتورة موزه بنت محمد الربان، التي قالت إن علماء البيئة استطاعوا قياس مستويات عالية من اليورانيوم في عينات من التربة من عدة مناطق في العراق، وقد ربطوا تلك القياسات والنتائج التي توصلوا إليها بالزيادة الكبيرة في أعداد المصابين بأمراضالسرطان المسجلة في السجلات الوطنية للسرطان في العراق.
إرث وخيم
وأضافت أن العلماء استنتجوا أن الحربين الدوليتين بقيادة الولايات المتحدة على العراق في عامي 1991 و2003، واللتين استخدمت فيهما قذائف اليورانيوم المنضب، قد تركتا إرثا وخيما على صحة المدنيين العراقيين بشكل عام، وزيادة في السرطانات والتشوهات الخلقية لدى المواليد بشكل خاص.
وأضافت الربان أن “الأمر لا يقتصر على اليورانيوم المنضب فحسب، بل لقد استخدمت أنواع عديدة من الملوثات في تلك الحروب كان لها أبلغ الأثر على البيئة والصحة لأهالي المنطقة، والدليل القاطع على لا إنسانية من يتشدقون بحقوق الإنسان، وأن هذه الأمة العربية والإسلامية مستهدفة من قبل هؤلاء الحاقدين لتدميرها على كافة المستويات بما في ذلك حياتها ومستقبلها”، وفقا للدكتورة.
وختمت المديرة العامة لمنظمة المجتمع العلمي العربي بأنهم يأملون في أن يحرك هذا الملف ساكنا، ويشمل ذلك دعوة لاتخاذ إجراءات فورية وفاعلة على كافة المستويات الرسمية والعلمية والشعبية، مؤكدة أن البيئة الملوثة في العراق ليست بعيدة عن دول الجوار عامة وعن الكويت والسعودية خاصة، وداعية لعمل مشترك بين هذه الدول لإنقاذ مستقبل الأجيال.
ويوضح الدكتور المقدادي في كتابه أنه أُطلقت على العراق خلال الحربين 1991 و2003 كمية هائلة من ذخائر اليورانيوم خلفت أكثر من 2200 طنا متريا من اليورانيوم المنضب، وهذا اليورانيوم المنضب الذي استعمل في العراق يساوي في ذريته ما يعادل 250 قنبلة ذرية، وهذا وفقا لما قدره البروفسور ياغازاكي Katsuma Yagasaki من الهيئة العلمية في جامعة ريوكيوس في أوكيناوا في اليابان.
أدلة قاطعة
ويضيف أنه ثمة أدلة قاطعة على أن استخدام اليورانيوم المنضب هو سبب الزيادة الكبيرة في حالات الإصابة بالسرطانات في العراق، مثل سرطان الدم لدى الأطفال وسرطان الثدي لدى الفتيات في بعض مناطق العراق بعد حرب 1991 وخلال احتلال العراق عام 2003 وما بعده، كما تشير الإحصاءَات إلى زيادة كبيرة في الولادات المشوهة في المناطق القريبة من ساحات المعارك.
ويذكر الكاتب أن العالم الكندي هاري شارما حذر -عقب زيارته الميدانية للبصرة- من أنه سيموت بالسرطان نحو 5-12% من الذين تعرضوا لأسلحة اليورانيوم المنضب عام 1991، وأكد شارما أن مئة ألف مواطن فيالبصرة وحدها أصيبوا بالسرطان بين عامي 1991 و1998، وأن 75% منهم أطفال. وسجلت حالات من الإسقاط والاعتلال العصبي والتشوهات الجنينية أكثر بكثير مما كان معتادا، وحصل ذلك وسط العراقيين من العسكريين والمدنيين.
ويضيف الكاتب أن العقدين الأخيرين شهدا انتشارا للأمراض السَرطانيّة في المجتمع العراقي على نحو كارثي، وبلغت الإصابات السَرطانيّة أكثر من مليون إصابة مُسجّلة رسميا، وما زال العدد يرتفع باستمرار. ويموت من هذه الإصابات سنويا ما يتراوح بين 10 آلاف و12 ألف شخص، وهناك عشرات آلاف الإصابات والوفيات سنويا غير المسجلة.
ويشرح أنه ظهرت أولى التداعيات الصحيّة لليورانيوم المُنضب على المدنيين في جنوب العراق -وخصوصا في البصرة وميسان وذي قار- عقب انتهاء حرب عام 1991 بعشرة أشهر. وكان الأطفال أولى ضحايا استخدام هذه الأسلحة المُشعّة، خصوصا الرُضّع وحديثي الولادة.
ويضيف أن الأطباء العراقيين لاحظوا عقب حرب الخليج 1991 حصول تغير جذري في فترة كمون (Latent period) الأمراض السرطانية، (وهي الفترة الزمنية بين التعرض لمسبب المرض وظهور أعراضه)، فالتي كانت فترة ظهور أعراضها 15-45 سنة، أصبحت -بتأثير استخدام اليورانيوم المنضب- ما بين عشرة أشهر وخمس سنوات.
حالات غريبة
وطرأت تغيرات كبيرة على وبائية الأمراض السرطانية في المناطق التي استخدمت فيها أسلحة اليورانيوم، ولاحظ الأطباء عقب حرب الخليج 1991 الكثير من الحالات الغريبة لدى أبناء وبنات المناطق التي تعرضت للقصف، خصوصا في محافظات البصرة وميسان والناصرية، ومنها:
كثرة حالات الإجهاض المتكرر والولادات الميتة.
ظهور حالات من التشوهات الولادية الرهيبة وغير المعروفة من قبل.
انتشار العقم لدى رجال ونساء.
كثرة الإصابات السرطانية في المناطق التي قصفت بالأسلحة الغربية.
انتشار الحالات السرطانية وسط عوائل لم يصب أحد منها من قبل، وأحيانا أكثر من فرد في العائلة الواحدة.
لاحظ الباحث الدكتور جواد العلي إصابة المريض الواحد بأكثر من حالة سرطانية (2 و3 وحتى 4 حالات) في آن واحد.
انتشار أمراض سرطانية وسط أعمار غير الأعمار المعروفة طبيا، مثل سرطان الثدي لدى فتيات بعمر 10 و12 سنة، وسرطانات أخرى نادرا ما تصيب شريحة الأطفال.
ارتفاع الإصابات السرطانية والوفيات بالسرطان بنسب عالية جدا، بلغت أضعاف ما كانت عليه قبل عام 1989.
ويضيف الكاتب أن أطفال العراق هم الضحية الأولى للأمراض السرطانية، فقد أكدت المعطيات أن العراق صاحب أعلى معدل لوفيات الأطفال في العالم، إذ يُعدُ سرطان الأطفال في العراق أكثر شيوعاً من مثله في الغرب، ويشكل 8% من حالات السرطان كافة في العراق، مقارنة بـ1% في الدول المتقدمة.
يذكر أن أكثر السرطانات شيوعا بين الأطفال هو سرطان الدم، تليه سرطانات الجهاز اللمفاوي والدماغ وأورام الجهاز العصبي، وأنه قد تضاعفت إصابة الأطفال بسرطان الدم في مدينة البصرة ثلاث مرات خلال الخمسة عشر عاما الماضية.
أما الدكتورة مي الأرناؤوط فلفتت إلى أن ما وصفته بـ”التعتيم الشامل في السنين الأولى بعد الحرب ونكران استعمال أي مواد سامة أو ملوثة في منطقة الخليج، قد أدى إلى الاعتماد الكبير على الصحف العالمية والصحفيين لاستقصاء المعلومات عما كان يجري على أرض الواقع، حيث أصبح الإعلام هو المصدر شبه الوحيد لهذه المعلومات مدعومة بتصريحات العاملين في مجالات الصحة والاختصاصيين الذين كانوا على اطلاع مباشر لمجريات الأمور ولعدة سنوات آنذاك”.
انخفاض الخصوبة
وتشرح الدكتورة أنه وفقا لتقرير للسي آي أي أعلن عام 2008 فقد حدثت تأثيرات صحية لدى النساء العراقيات، حيث انخفضت نسبة الخصوبة الكلية (وهي عدد ولادات كل امرأة خلال فترة الخصوبة) من 4.87 عام 2000 إلى 3.97 عام 2008.
كما أشار التقرير نفسه إلى ارتفاع نسبة حدوث سرطانات الأطفال في عمر ما تحت 15 سنة في البصرة من 3.9% عام 1990 إلى 13% عام 2000، رافقها ارتفاع سرطان الدم الأبيض (اللوكيميا) في أطفال البصرة بعمر أقل من خمس سنوات من 13.3% عام 1990 إلى 56.7% عام 2000. ويعتبر اللوكيميا مؤشرا مباشرا إلى التأثر بالإشعاع عند الأطفال.
كما تشير إلى أنه بعد قصف الفلوجة في 2003-2004، نقلت الأخبار ازدياد تشوهات وأمراض القلب الولادية بـ13 مرة مقارنة بالنسب الأوروبية، كما ظهرت تشوهات الهيكل العظمي وحالات ولادية أخرى لم تكن معروفة سابقا.
تجدر الإشارة إلى أنه يمكن تحميل النسخة الإلكترونية الكاملة من الكتاب مجانا من موقع منظمة المجتمع العلمي العربي على الإنترنت.
ومنظمة المجتمع العلمي العربي (ARSCO) هي منظمة مستقلة غير ربحية، تعنى بشؤون المجتمع العلمي العربي ويتولى إدارتها مجلس أمناء وإدارة مستقل، وتعمل على توفير أرضية وبيئة تجمع الأكاديميين والباحثين العلميين والمهندسين والأطباء لتبادل الخبرات والمعلومات والتفاعل والتعاون فيما بينهم، لتكون ملتقى للحوار وفضاء لنشر مقالات علمية وتبادل الآراء.