(أثبتت “سكاكين المطبخ” الفلسطينية أنها بقدر خطر صواريخ المقاومتين الفلسطينية واللبنانية على “أمن المواطن” في دولة الاحتلال الإسرائيلي وعلى جبهتها الداخلية)
بقلم نقولا ناصر*
إن النتائج التي حققتها انتفاضة “السكاكين” الفلسطينية في القدس المحتلة وانطلاقا منها خلال أسبوعين من عمرها هي ذاتها الأسباب التي جعلت كل أطراف الجمع المنفرط ل”عملية السلام” يسارعون إلى التواصل بحثا عن “تهدئة” سريعة لاحتواء هذه الانتفاضة ووأدها في المهد.
لقد سخر الإعلامي المصري إبراهيم عيسى من “انتفاضة الأقصى الثانية” خلال الأسبوع الماضي قائلا إن “طعن المدنيين الإسرائيليين” لا جدوى منه لأن “سكاكين المطبخ لن تحرر فلسطين”، وهي ذات السكاكين التي أعلن وزير حرب دولة الاحتلال الإسرائيلي موشيه يعالون إن دولته وحكومته وجيش احتلاله يعجزون عن “تنظيف مطابخ القدس” منها.
ولا حاجة هنا لملاحظة أن صوت عيسى نشاز يشذ عن نبض الشارع العربي – الإسلامي في مصر، ولا لتذكيره بأن لجوء الفتية من عرب فلسطين إلى السكاكين لمقاومة الاحتلال، وبخاصة في القدس، يمثل وصمة عار في جبين النظام الرسمي العربي الذي ينفق الآن بلا حساب مليارات الدولارات على الفتنة الطائفية والاقتتال العربي و”الجهاد” في كل مكان إلا حيث الجهاد “فرض عين” في فلسطين بينما يبخل على عربها ومقاوميهم بفتات من هذا الإنفاق، ولا لتذكيره بأن الحصار العربي الذي فرضته على الشعب الفلسطيني معاهدات “السلام” التي أبرمتها بلاده وغيرها مع دولة الاحتلال لم يترك لهذا الشعب سوى “السكاكين” كي يقاوم بها.
إن أسبوعين حتى الآن من “انتفاضة السكاكين” قد أنجزت ما عجزت عن تحقيقه عقود من زمن “مفاوضات السلام” الفلسطينية و”مبادرات السلام” العربية وغير العربية.
قد يكون تفاؤل عضو المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” موسى أبو مرزوق تفاؤلا متسرعا أو سابقا لأونه عندما أراد أن يبقي “فسحة الأمل” مفتوحة أمام شعبه ليعد بأن ما سماه انتفاضة القدس “ستقطع كل صلة” فلسطينية “مع الاحتلال … وتنهي التحالف مع الأعداء تحت مسمى التنسيق الأمني”، و”ستنهي الانقسام” الفلسطيني، و”ستنهي التفرد” في صنع القرار الفلسطيني و”ستكرس الشراكة الحقيقية” الوطنية، و”ستوقف الاستيطان”، و”ستنهي التقسيم الزماني والمكاني للأقصى”، و”ستمهد لإقامة الدولة” الفلسطينية. واستخدام مرزوق لحرف “السين” وليس “سوف” يوحي بتحقيق قريب وليس بعيدا لهذه المطالب الوطنية والشعبية.
فالتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال جعلته انتفاضة الأقصى الثانية أصعب لكنه ما يزال مستمرا، والانقسام لم ينته بالرغم من الوحدة الميدانية الشعبية، و”الشراكة” الوطنية يجسدها المنتفضون الشباب على الأرض غير أن “التفرد” في صنع القرار متواصل، وحرية المستوطنين في المستعمرات في الحركة وفي العدوان على المواطنين الفلسطينيين تقلصت فحسب، وصحيح أن رئيس وزراء دولة الاحتلال “أمر” الوزراء وأعضاء الكنيست بعدم زيارة الحرم القدسي لكنه لم يمنع المستوطنين اليهود من ذلك، وما زال هؤلاء يقتحمون الأقصى ون كانت أعدادهم قد قلت، والتقسيم الزماني والمكاني للأقصى أوقفته انتفاضة السكاكين لكن إلى حين فالعودة إليه متوقعة إن توقفت الانتفاضة لأي سبب كان.
لكن بالرغم من ذلك فإن الانتفاضة قد حصدت ثمارا سريعة لا يراها إلا من انعدم لديه البصر أو البصيرة.
فهي، أولا، قد أعادت قضية احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1967 إلى صدارة الأحداث الدولية بعد التهميش الفاضح لها في الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، فوزير الخارجية الأميركي جون كيري أعلن عن زيارة “قريبة جدا” للمنطقة، وهناك تقارير عن قمة “فلسطينية – إسرائيلية” بحضوره يستضيفها الأردن، والجامعة العربية عقدت اجتماعا “طارئا” على مستوى المندوبين واتفقت مع خارجية “السلطة الفلسطينية” على تقديم مشروع قرار للجمعية العامة أو لمجلس الأمن الدولي لتوفير “حماية” أممية للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وطلب الأردن العضو غير الدائم في مجلس الأمن الدولي عقد اجتماع عاجل للمجلس أمس الجمعة حول الوضع في القدس.
وهي، ثانيا، أثبتت هشاشة كل الاستعدادات التي قامت بها دولة الاحتلال لتعزيز جبهتها الداخلية من أجل توفير “الأمن” لمواطنيها، بعد التهديد الخطير الذي تعرضت له هذه الجبهة من صواريخ المقاومتين الفلسطينية واللبنانية منذ عام 2006، فقد أثبتت “سكاكين المطبخ” الفلسطينية أنها بقدر خطر صواريخ المقاومتين الفلسطينية واللبنانية على “أمن المواطن” في دولة الاحتلال وعلى جبهتها الداخلية.
وهي، ثالثا، أجبرت جيش الاحتلال على وقف تدريب ستة سرايا وعلى دعوة قوات الاحتياط في حرس الحدود لنشرهم في شرقي القدس المحتلة علاوة على نشر أربعة آلاف شرطي إضافي فيها (“هآرتس” العبرية) لمواجهة “سكاكين المطبخ” التي سخر إبراهيم عيسى منها. ومن المرجح أن يزداد الاستنزاف والإرهاق العسكري لدولة الاحتلال مع استمرار الانتفاضة.
وهي، رابعا، أسقطت دعاية دولة الاحتلال بأن القدس هي عاصمتها “الموحدة”، فالإجراءات التي أقرتها حكومة الاحتلال بفرض منع التجول على أحياء شرقي القدس العربية وحصارها وفصلها عن مثيلاتها اليهودية بالحواجز العسكرية والأمنية تؤكد للرأي العام العالمي بأن القدس ليست “يهودية” ولا “موحدة”.
وهي، خامسا، وجهت ضربة قوية وإن لم تكن قاصمة لاقتصاد دولة الاحتلال، ليس بسبب عزوف السياح عن الزيارة والمستثمرين عن الاستثمار حتى ينجلي الوضع فحسب، بل أيضا، على سبيل المثال، لأن (35) ألف فلسطيني من شرقي القدس العربية يعملون في غربيها المهود قبل النكبة عام 1948.
ولأن هذه الانتفاضة جعلت “التعايش” العربي اليهودي تحت الاحتلال ليس ممكنا فإن تقارير إعلام دولة الاحتلال تتحدث عن شلل الأعمال ليس في غربي القدس فقط بل وفي مدن الداخل المختلطة مثل حيفا وعكا ويافا ناهيك عن العمالة العربية الكبيرة في المدن ذات الأغلبية اليهودية كتل أبيب.
وهي، سادسا، أسقطت مقولة تسوقها دعاية دولة الاحتلال عالميا وتضلل بها شعبها كذلك مفادها أن “الكبار” من عرب فلسطين يموتون و”الصغار” ينسون. فالذين يحملون الانتفاضة الحالية على كواهلهم الغضة لم يعيشوا “النكبة” ولا “نكسة” 1967 ولا الانتفاضة الأولى ولا الثانية وقد فاض بهم كيل الاحتلال ووعود قادتهم لهم التي لا تتحقق فقرروا تقرير مصيرهم بأنفسهم.
والعبرة واضحة: فمن يراهنون على تصفية القضية الفلسطينية خاسرون فعرب فلسطين يحملونها من جيل إلى آخر. وربما يكون إبراهيم عيسى مصيبا في قوله إن “سكاكين المطبخ لن تحرر فلسطين” لكن هذه السكاكين قد حررت شباب فلسطين كي ينطلقوا إلى تحرير وطنهم.
وهي، سابعا، قد أثبتت أنه حيث لا توجد “السلطة الفلسطينية” كحاجز بين الاحتلال وبين الشعب الفلسطيني يكون هذا الشعب أقدر على مقاومة الاحتلال، فالانتفاضة الحالية تنتشر في القدس ومناطق “ج” في الضفة الغربية وفلسطين 1948 حيث لا وجود للسلطة. أما حيث هي موجودة فالتفاعل مع الانتفاضة ما زال “تضامنيا” إلى حد ما.
ومما له دلالته في هذا السياق أن كل قرارات العقوبات الجماعية التي اتخذتها حكومة الاحتلال حتى الآن كانت موجهة ضد الشعب الفلسطيني وليس ضد “السلطة الفلسطينية”.
وهي، ثامنا، وحدت الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الذي جزأته اتفاقيات أوسلو سيئة الصيت، وهي تبشر بدفن هذه الاتفاقيات إلى الأبد، فقد ولى الزمن الذي كانت فيه غزة، مثلا، تتعرض للعدوان والتدمير وحدها، فمشاركة القطاع وفلسطين 1948 والضفة الغربية بهذه الدرجة او تلك أو بهذا الشكل أو ذاك في انتفاضة القدس الثانية تبشر بزمن فلسطيني مختلف يدعو للتفاؤل.
وهي أخيرا وليس آخرا انتفاضة “عفوية” لم تتبن الفصائل الفلسطينية أيا من عملياتها “جميعها تقريبا”، في الأقل حتى الآن، و”الغضب” الفلسطيني فيها “حقيقي” كما كتب ديفيد روزنبيرغ في هآرتس الخميس الماضي. وعندما يقرر فتيتها أخذ مصيرهم بأياديهم فإنهم إنما يعلنون بطريقة عملية قطيعة مع قياداتهم ومع دعواتهم ل”التهدئة”.
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com