انحسار الانكماش لا يكفي لتعافي الاقتصاد الروسي

ارتفع سعر صرف الروبل الروسي منتصف الشهر الجاري إلى أعلى مستوياته منذ نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) 2014. وأفادت هيئة الإحصاء الرسمية «روستات» بأن الاقتصاد الروسي انكمش بنحو 1.9 في المئة خلال الربع الأول من السنة، في مؤشر أفضل من المتوقع. وأذكى المؤشران السابقان آمالاً بأن الأسوأ من الأزمة مضى، وشجع إيغور شوفالوف، النائب الأول لرئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيدف، على التراجع عن تصريحات سابقة بأن بلاده تعيش أزمة اقتصادية عميقة قد تستمر سنوات. وقال المسؤول المشرف على الاقتصاد إن اقتصاد بلاده يمر بأوقات صعبة ولكنه لا يشهد أزمة، مؤكداً تجاوز السيناريو الأسوأ.

وبلغة الأرقام، عززت العملة الروسية قوتها واستقر سعر صرف الدولار تحت 50 روبل في الأيام الأخيرة. ومنذ مطلع شباط (فبراير) حتى منتصف الشهر الجاري، تراجع سعر الدولار نحو 30 في المئة، وفي نيسان (أبريل)، ارتفع سعر برميل النفط من نوع «أورالز» الروسي نحو 23 في المئة إلى 64.3 دولار، ما منح الروبل قوة إضافية، خصوصاً في ظل تراجع التوتر السياسي مع الغرب، وعدم فرض عقوبات جديدة واحتمال رفع جزء من العقوبات في حال تنفيذ «اتفاقات مينسك» لتسوية الأوضاع في شرق أوكرانيا.

وهذه العوامل حسنت مزاج المستثمرين وخففت وتيرة هجرة الأموال خلال الشهور الماضية، وأدت إلى تراجع طلب المواطنين على الروبل. ولكن احتمال انتكاسة جديدة للعملة الروسية ما زال قائماً، فأسعار النفط قد تتراجع وفقاً لتوقعات كثيرة بسبب زيادة المعروض، خصوصاً إذا قُدر للاتفاق النووي مع إيران أن يبصر النور. ومن المبكر الحديث عن رفع العقوبات الغربية المفروضة على القطاع المالي الروسي، وفتح الباب أمام إمكان الحصول على قروض خارجية. وللمقارنة، فإن سهولة الاقتراض من الأسواق الخارجية وعدم وجود عقوبات على روسيا ساهم في تخفيف حدة هبوط الروبل خلال الأزمة المالية عام 2008، على رغم تدهور أسعار النفط حينها.

الضغوط على الروبل

ويُتوقع أن تتزايد الضغوط على الروبل خلال الأشهر المقبلة بسبب زيادة المبالغ التي يجب دفعها، بينها القروض الخارجية والتزامات الشركات الروسية الداخلية، وكذلك موسم دفع الشركات أرباح الأسهم، إضافة إلى الارتفاع الموسمي في الطلب على العملات الأجنبية بسبب العطلات. ويتوجب على الشركات الروسية دفع نحو 6.4 بليون دولار خلال الشهر الجاري، بينما ستتجاوز المدفوعات الخارجية اعتباراً من أيلول (سبتمبر) المقبل 10 بلايين دولار شهرياً لتبلغ الذروة في كانون الأول (ديسمبر) عند 24.6 بليون دولار.

وبمراجعة مراحل الأزمة، يظهر أن «المركزي» الروسي اتخذ إجراءات صائبة لتخفيف حدة الأزمة على سعر صرف الروبل. ومع تحسن سعر الصرف خفض المصرف منذ مطلع السنة سعر الفائدة من 17 إلى 12.5 في المئة، ويتوقع أن يواصل سياسة خفض الفائدة حتى نهاية السنة. ولكن صناع السياسة النقدية في موقف لا يحسدون عليه، فمن جهة يؤدي هبوط الروبل إلى زيادة التضخم وتراجع ثقة المواطنين بالعملة الوطنية وسحب الودائع، كما يتسبب في تراجع النمو بسبب ضعف الاستثمارات وارتفاع سعر الفائدة على القروض، ما يعطل زيادة الطلب الداخلي. ومن جهة أخرى، فإن تعزيز قوة الروبل يؤثر سلباً في الموازنة العامة ويزيد عجزها، وفي مالية المصدرين الروس أيضاً، كما يعطل الجهود الحكومية للحد من الاستيراد وبرنامج تطوير بدائل وطنية للصادرات.

ودفع تراجع صرف الدولار إلى أقل من 50 روبل، المركزي الروسي إلى التدخل وشراء نحو 180 مليون دولار في 13 الجاري للحد من صعود الروبل. وأعلن لاحقاً نيته زيادة احتياطاته من العملات الأجنبية عبر شراء ما بين 100 و200 مليون دولار يومياً. وعلى رغم أن التدخل يبدو محدوداً، إلا أنه يُقدر بنحو 4.5 بليون دولار شهرياً. ولافت أن «المركزي» لم يحدد بوضوح مدة تدخله في السوق، عازياً خطوته إلى الرغبة في زيادة احتياطات العملات الأجنبية التي تراجعت عام 2014 نحو 24 في المئة لتبلغ 385.5 بليون دولار، من 509.6 بليون، وواصلت هبوطها خلال العام الحالي لتسجل مطلع الشهر الجاري 358.5 بليون دولار.

واضح أن التدخل المحدود لـ«المركزي» سيساعد في الحفاظ على سعر الدولار عند نحو 50 روبل خلال الفترة المقبلة، ولكن هذا التأثير لن يدوم طويلاً، إذ يُتوقع أن يُسجل تذبذب محدود في أسعار الصرف لعدم رغبة المضاربين في تحدي السلطات النقدية في موسم دفع ضريبة القيمة المضافة وضرائب شركات النفط والخامات التي من يتوقع ان تصل إلى 290 بليون روبل حتى نهاية الشهر الجاري. وتوقع خبراء استمرار تذبذب سعر صرف الروبل في الفترة القريبة المقبلة وتراجعه حتى نهاية السنة، كما حافظ معظم الخبراء والمحللين على توقعاتهم بأن سعر صرف الدولار سيرتفع نهاية العام الحالي إلى ما بين 55 و60 روبل.

تحسّن أو انتهاء الأزمة؟

وتستطيع الحكومة تقديم تحسن سعر الصرف على أنه انتصار في وجه العقوبات الغربية، على رغم أن أزمة الصرف مجرد عامل زاد من قسوة الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعيشها روسيا منذ عام 2012، وتعمقت مع العقوبات الغربية منذ نحو سنة. ولكن على رغم أن الاقتصاد الروسي تفادى انهياراً كبيراً بسبب العقوبات الغربية المفروضة على خلفية ضم القرم والأزمة الأوكرانية، فمن المبكر الحديث عن الخروج من الأزمة. فالاقتصاد في أفضل أحواله على حافة الكساد، وحتى أفضل التوقعات الحكومية المفرطة في التفاؤل تنتظر انكماشاً خلال العام الحالي يتجاوز 2.5 في المئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، فيما خفض صندوق النقد الدولي في تقاريره أخيراً توقعاته لنمو الاقتصاد الروسي إلى انكماش نسبته 2.7 في المئة، كما توقع تراجع الاقتصاد العام المقبل 1.1 في المئة. وأشار خبراء ومؤسسات بحثية إلى أن انكماش الناتج المحلي سيتجاوز 6 في المئة، وأن ضم القرم والأزمة الأوكرانية إضافة إلى هبوط أسعار الطاقة ستعيد الاقتصاد الروسي 10 سنوات إلى الوراء لتمحو كثيراً من إنجازات الرئيس فلاديمير بوتين.

وكشف العام الماضي أن روسيا تشهد أزمة اقتصادية هي الأقسى في تاريخها الحديث، إذ تجمعت عوامل تصعّب الخروج منها على المديين القصير والمتوسط. فالاقتصاد الروسي يعاني أزمة هيكلية وضعف المؤسسات التي لا تتناسب مع التطور الاقتصادي، فبحسب حصة الفرد من الناتج المحلي تصنف روسيا في أسفل قائمة الدول المتطورة، بينما تحتل مركزاً متوسطاً بين الاقتصادات النامية لجهة جودة المؤسسات وفاعليتها. ويغطي الأثر الإيجابي لارتفاع أسعار الطاقة على هذا التناقض، ولكن الأزمة تظهر واضحة عندما تهوي الأسعار، وهو ما تكرر ثلاث مرات حتى الآن، الأولى عام 1998 والثانية عام 2008، إضافة إلى الأزمة الحالية. ويتمثل العامل الثاني لضعف الاقتصاد الروسي بارتباطه الكبير بالأزمات الدورية للاقتصاد العالمي، ومناخ الأعمال السيئ في البلد، ما أدى إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية.

وقد يحدّ تحسن أسعار النفط ورفع العقوبات المالية الغربية من تأثير الأزمة الحالية، وما يرافق ذلك من صعود الروبل وانكماش أقل للناتج المحلي خلال العامين الحالي والمقبل، ولكن الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد وتشجيع قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة وتحسين المناخ الاستثماري، وبناء اقتصاد حديث يعتمد على الصناعة هو الضامن لعدم تكرار الأزمات الاقتصادية في روسيا، أو التخفيف من حدتها في حال تراجع أسعار الخامات أو فرض عقوبات.

+ -
.