تحليل إقتصادي: النفط الرخيص فرصة للجميع!

ترتفع الأصوات المتشائمة في الدول النفطية من تهاوي أسعار النفط وعجز أوبك على اتخاذ قرار يوقف تدهورها. بيد أن انهيار الأسعار له وجه إيجابي يتمثل في دفع هذه الدول لتنويع اقتصادياتها التي تعتمد بشكل رئيسي على ثروة ناضبة.

كما كان متوقعا فشلت منظمة الدول المصدرة للنفط/ اوبك في اجتماعها الأخير يوم 27 نوفمبر/ تشرين 2014 في التوصل إلى اتفاق يقضي بتخفيض الإنتاج من أجل وقف تهاوي الأسعار. ويلغ مستوى الإنتاج الحالي للمنظمة 30 مليون برميل في اليوم، أي ثلث الإنتاج العالمي.

وهكذا فإن سعر برميل النفط الخام الذي تراجع خلال الأشهر القليلة الماضية بنسبة زادت عن 30 بالمائة يتجه إلى مزيد من التهاوي. ويدعم هذا الرأي زيادة العرض الحالي على الطلب. كما يدعمه توجه الولايات المتحدة إلى ضخ المزيد من النفط الصخري في الأسواق خلال السنوات القليلة القادمة. وسيساعدها على ذلك التحسن السريع في تقنيات استخراجه بشكل يخفّض من تكاليف إنتاجه. كما أن اقتصاديات الدول الصناعية الرئيسية المستهلكة ما تزال تعاني من تباطؤ النمو بشكل لا ينبئ بزيادة طلبها على النفط في المدى المنظور.

أظهر اجتماع منظمة الدول المصدرة للنفط، اوبك الأخير أيضا أنها لم تعد قادرة على التحكم في العرض النفطي ومسار الأسعار كما كان عليه الأمر سابقا. بعض المحللين والسياسيين يفسر ذلك برفض السعودية ودول خليجية أخرى خفض الإنتاج بهدف إلحاق أضرار بخصوم سياسيين لها وللغرب، أي بإيران ورسيا وفنزويلا. وبغض النظر عن مبررات هذا الرأي، وعن مبررات الموقف السعودي الذي يراهن على السوق في تصحيح السعر، فإن السبب الأبرز وراء ضعف منظمة أوبك يتمثل في زيادة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة بشكل مضطرد. وتفيد إحصائيات وزارة الطاقة الأمريكية إلى أن الإنتاج السنوي وصل إلى حاليا إلى 9 ملايين برميل يوميا، وتذهب التوقعات إلى أن الولايات المتحدة ستحتل المرتبة الأولى في الإنتاج بحلول عام 2017، لتسبق السعودية التي تنتج حاليا 9.6 مليون برميل يوميا.

تراجع قدرة أوبك على التحكم بمسار الأسعار وتدني سعر برميل برنت للنفط الخام إلى ما دون 70 دولارا للبرميل يعني أن مشاكل متزايدة ستواجه الدول المنتجة التي كانت حتى الآن تضع موازناتها التي تتضمن نفقاتها الإدارية والاستثمارية على أساس سعر برميل بين 80 إلى 100 دولار. وستزداد حدة هذه المشاكل كلما زاد الاعتماد على الواردات النفطية كأهم مصدر للدخل كما هو عليه الحال في دول كالسعودية والعراق وليبيا والجزائر والكويت وفنزويلا. بالطبع يمكن التخفيف من حدة هذه المشاكل في بعض الدول من خلال إنفاق الاحتياطات المالية المتراكمة كما تفعل السعودية ودول خليجية أخرى. غير أن هذه الاحتياطات لا تكفي لسنوات طويلة مما سيحتم على الأخيرة التقشف في نفقاتها الاجتماعية والاقتصادية، إلا اذا اعتمدت على مصادر دخل أخرى.

أما بالنسبة للدول التي لديها احتياطات مالية محدودة كإيران وروسيا وفنزويلا فإنها ستكون مضطرة للبدء وبشكل أسرع بإجراءات تقشفية تطال قطاعات خدمية واقتصادية متعددة. وسيرافق ذلك المزيد من الضغوط التضخمية التي تؤدي إلى تراجع أسعار عملاتها وزيادة أسعار السلع في أسواقها.

أما بالنسبة للدول المستهلكة وفي مقدمتها دول صناعية كاليابان وألمانيا والصين أو دول أخرى كالمغرب وتونس فإن النفط الرخيص يخفّض قيمة فواتيرها النفطية بمليارات الدولارات ويعطيها فرصة لكبح التضخم أو ارتفاع الأسعار وإنعاش اقتصادياتها من خلال تخفيض تكاليف الإنتاج. وحسب مصرف كوميرسبنك الألماني فإن الانخفاض الحالي في سعر النفط سيمكن ألمانيا من تحقيق نسبة نمو إضافية بمعدل 0.2 بالمائة خلال العام القادم 2015. وفي الكثير من الدول هناك فرص لرفع نسبة النمو المذكورة إلى معدلات تزيد على 0.3 بالمائة.

بعيدا عن أجواء التشاؤم السائدة في الدول النفطية إزاء المخاوف من تراجع أسعار النفط الخام لفترات طويلة، فإن لهذا التراجع وجها إيجابيا قلما يجري الحديث عنه بشكل يذكر. ويتمثل هذا الوجه في أن السعر الرخيص يشكل أيضا فرصة جيدة لها من أجل العمل بجدية على تنويع اقتصادياتها اعتمادا على ثروات مستدامة بدلا من الاعتماد على مصدر مرتبط بثروة ناضبة.

شهد سوق النفط خلال نصف قرن مضى طفرات أسعار عديدة درّت على الدول المنتجة عائدات مالية إضافية بمئات المليارات من الدولارات. على الصعيد العربي تم استثمار قسم من هذه الأموال في مشاريع شملت بشكل أساسي البنية التحتية والعقارات والعديد من الخدمات الاجتماعية العامة. كما تم تقديم المليارات منها لدول عربية غير منتجة للنفط لشراء مواقف ونفوذ سياسي كما يجري في مصر ودول أخرى. غير أن مجمل الأموال المستثمرة على مدى العقود الماضية ورغم أهميتها الفائقة لم تفلح في تحويل أي اقتصاد عربي إلى اقتصاد صناعي – خدمي متنوع الموارد على حساب اقتصاد ريعي – عقاري يغلب علية الطابع الاستهلاكي.

كما أن الاستثمارات التي حصلت ركزت على الجانب المادي- العمراني المستورد بدلا من تركيزها على العنصر البشري المحلي- الإبداعي، ولا ننسى هنا أن أساليب وطرق الاستثمار التي تم اعتمادها عززت انتشار الفساد والمحسوبية بشكل حولهما إلى ثقافة عمل قاتلة في الإدارات العربية. وهكذا فإن الدول العربية تعد اليوم من أفقر دول العالم في مجال الإبداع وتوفر البني العملية التحتية العلمية الخلاّقة. أخيرا ومن يدري، ربما يكون سعر نفط منخفض على المدى الطويل محركا لا بد منه للتحرر من التبعية لهذا الثروة التي يطلق عليها الذهب الأسود.

+ -
.