إذا لم تكن عروض الـ«كروز» تثير انتباهك من قبل، أو لا تقدر أهميتها، فإنها لا بد أثارتك بعد عرض «شانيل» الذي أقيم أخيرا في دبي، والضجة التي أثارها قبل العرض وبعده. نعم، فعروض الـ«كروز» أو الـ«ريزورت» كما يحلو للبعض تسميتها أصبحت مع الوقت صناعة قائمة بحد ذاتها، تلبي متطلبات شريحة كبيرة من الزبائن، من الذين يهربون إلى الشمس في عز البرد، يتدفأون بأشعة الشمس الذهبية التي تغنيهم عن المعاطف والكنزات الصوفية. وحسب وصف مصمم دار «لوي فويتون» الحالي، نيكولا غيسكيير: «تشكيلات الكروز؟ إنها أزياء صيفية لأشخاص يسافرون في الشتاء.. هي أيضا تشكيلات تسلم للمحلات في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) البارد لتخلق تناقضا لذيذا وإمكانيات واسعة لمزج قطع خفيفة مع أخرى دافئة».
وأضاف بعد العرض قائلا إن «تشكيلات الـ(كروز) يجب أن تتميز بالعصرية والرقي، مع ضرورة توفرها على عنصري البساطة والعملية عند ارتدائها. وحتى إذا كانت راقية، فإنها يجب أن تشعر صاحبتها بأنه بإمكانها أن تلبسها بسهولة، أو على الأقل هذا هو تصوري».
ما يعزز جمالها وعمليتها أنها تشمل قطعا منفصلة يمكن تنسيقها في النهار بأشكال مختلفة، كما تشمل فساتين كوكتيل ومساء وسهرة، بل وحتى ملابس صوفية ومعاطف، رغم أنها كانت في البداية تشمل أزياء سباحة وبحر فقط.
لكن دائما تكون الأناقة العملية عنوانها وشرطا من شروطها منذ ولادة بذرتها في الثلاثينات من القرن الماضي، حين قررت الآنسة كوكو شانيل أن تقدم للمرأة التي تحررت لتوها من قيود الكورسيهات والتفاصيل المبالغة فيه، بنطلونات واسعة من الجيرسيه بألوان الكريم ومشتقاته، وجاكيتات وفساتين ناعمة وكنزات خفيفة.
التطور الذي شهدته هذه التشكيلات أن بيوت الأزياء الكبيرة أصبحت تتبارى في إقامة عروضها، بطرق مبهرة وفي وجهات فخمة تكون أحيانا أشبه بدعاية سياحية لهذه الأماكن، خصوصا إذا كانت جديدة أو سرية لا يعرفها سوى نخبة من متقني فن السفر والترحال. بيوت أزياء كبيرة مثل «شانيل» و«ديور» و«لوي فويتون»، مثلا، باتت تعرف قوة هذا الخط، لأنه في بعض المناطق من العالم يبقى في المحلات مدة أطول من خط الأزياء الجاهزة، بحكم الطقس والبيئة، وليس أدل على هذا من منطقة الشرق الأوسط التي تناسبها أزياء تراعي أجواء الصيف لأكثر من ستة أشهر. أما من الناحية التسويقية، فهو يطرح في الأسواق قبل تشكيلات الخريف أو الربيع ويشكل نسبة 70 في المائة من الأزياء الجاهزة تقريبا.
نظرا لهذه الأهمية، من البديهي أن تكبر هذه العروض وتتبنى أسلوبا في العرض يعكس أهميتها وشخصيتها المنطلقة والمريحة، ويساعد على تسويقها. فعلى العكس من أسابيع الموضة الأخرى، التي تشهدها عواصم الموضة العالمية في سبتمبر (أيلول) وفبراير (شباط) من كل عام، والمحشورة بتوقيتها، فإن عروض الـ«كروز» لا تنظم في اليوم نفسه، بل وأحيانا ليس في الأسبوع نفسه. فبحكم أن الأماكن متنوعة وبعيدة، تستدعي السفر، كان هناك اتفاق ضمني أن الفاصل بينهما يجب أن يكون عدة أيام، لكي تمنح المجال لضيوفها فرصة الاستمتاع بها أكثر بعيدا عن ضغوطات الوقت المقيدة، وأيضا إمكانية حضورهم، إذا لم تتضارب مع بعض. فالمتعارف عليه أن كثيرا من هؤلاء الضيوف زبائن لكل هؤلاء البيوت. وحتى من لا يظهر ولاءاته ظاهريا، هناك اعتبارات كثيرة تؤخذ بعين الاعتبار عند توزيع الدعوات وتلبيتها.
فهذه العروض، لا تزال نخبوية إلى حد ما، لا يدعى لها سوى باقة منتقاة من الزبائن من كل أنحاء العالم، فضلا عن مجموعة من وسائل الإعلام، تتحمل هذه البيوت كل مصاريفهم. فهم أولا وأخيرا ضيوفها المكرمون، وكلما زادت من نسبة الكرم، نالت الإعجاب والتقدير، فضلا عن أن هذه المصاريف لا تساوي شيئا مقارنة بما تحققه هذه التشكيلات من أرباح تتزايد موسما بعد موسم. فالناس تريد أزياء جديدة ومختلفة عما تراه في المحلات عادة، وهذه الأزياء تخاطب أذواقا وبيئات مختلفة، وإن كانت نشاطاتهم متشابهة، الأمر الذي شجع بيوت الأزياء العالمية على أن تهتم بها أكثر، بتوفير كل العناصر التي من شأنها أن تثير الأنظار إليها وتؤجج الرغبة فيها، سواء تعلق الأمر باختيار أماكن بعيدة أو إقامة عروض مبهرة أو تقديم أزياء في غاية الأناقة تحاكي «الهوت كوتير» في دقتها أحيانا، مع فرق واحد ومهم وهو أنها أكثر انطلاقا وحرية. «ديور» مثلا أقامت عرضها هذا العام في نيويورك، واستعانت بمراكب لنقل ضيوفها إلى مكان العرض، حيث كان باستقبالهم شباب في أزياء بحارة. ضيوف «شانيل»، الذين تعدى عددهم الألف تقريبا، أيضا نقلوا بواسطة مراكب إلى جزيرة في دبي، في أول تجربة لدار أزياء عالمية في منطقة الشرق الأوسط.
العرض كان ضخما، وظفت له كل عناصر الإبهار، ونجحت في سرقة الأضواء من كل المنافسين، لسبب رئيس، أن الوجهة جديدة بكل معنى الكلمة، ولم يخطر ببال أحد من قبل «شانيل» أن فكرت فيها أو تجرأت عليها، رغم أنها منطقة مهمة ومؤثرة في سوق الموضة. لكن ما يحسب للدار أنها بدأت في تنظيم هذه العروض المبهرة منذ عام 2000 واكتسبت خبرة طويلة فيها. دار «لوي فويتون»، التي دخلت المنافسة بكل قوتها في السنوات الأخيرة، لم تقبل بالعادي هي الأخرى، واختارت موناكو لتكون مسرح أول عرض يقدمه لها مصممها الجديد نيكولا غيسكيير.
عرض بث مباشرة على الهواء من قصر سكوير، قلب الإمارة في أول مرة يستقبل فيها القصر عرضا للأزياء. وبررت الدار اختيارها للإمارة بأن علاقة وطيدة تربطها بها منذ زمن طويل. فقد سبق لها أن تعاملت مع أفراد العائلة بموناكو للمرة الأولى في عام 1904، عندما صممت لها غلافا لتغطية الملابس من جلد التمساح.
وفي عام 1997. ابتكرت حقيبة «لو ماليسيو Le Malicieux» احتفالا بمرور 700 عام على سلالة أمراء موناكو، وتكريما لفرنسوا غريمالدي، الملقب بـ«لو ماليسيو» أو «الماكر» الذي استولى على قلعة موناكو في عام 1297. ومع ذلك على العكس من «ديور» و«شانيل»، لم يكن عرض «لوي فويتون» معتمدا على الإخراج المسرحي والإبهار بقدر ما ركز على الأزياء واعتمد على لائحة طويلة من النجوم والعارضات والمدونات العالميات من مثيلات الروسية ميروسلافا دوما، وطبعا الأميرة شارلين أوف موناكو التي ارتدت أزياء من تصميم نيكولا غيسكيير للدار من الرأس إلى أخمص القدمين، وكأنها ترحب به وبالدار في الإمارة.
ورغم أن معظم بيوت الأزياء بدأت تدرك أهمية هذا الخط، من الناحية التجارية، فإن قلة منها لها الإمكانيات التي يتطلبها عرض مميز بعيدا عن الوطن الأم، باستثناء الكبار. فمن كان يتصور منذ عشرين عاما مثلا أن تدخل «لوي فويتون» مجال الأزياء وتتفوق فيه، هي التي كانت إلى عهد قريب تشتهر بالجلود والإكسسوارات فقط؟! أرباحها من المنتجات الجلدية هي التي شجعت على التوسع للأزياء، والحقيقة أنها ما إن جربت حظها فيه حتى «استحلته»، خصوصا بعد أن ذاقت أرباحه. ففي العام الماضي، قدرت مبيعاتها بعشرة مليارات دولار أميركي، حسبما نشرته مجلة «فوربس»، مما يعني أنه حتى إذا كان جانب الأزياء الجاهزة فيها يشكل خمسة في المائة فقط، فإنه يحقق 500 مليون دولار أميركي سنويا، وهذا مبلغ لا يُستهان به، ويستحق أن يحتفل به من خلال عروض تليق بسمعتها ومكانتها، وفي الوقت ذاته تجذب لها زبائن جدد، باستعمال لغة خفيفة تخاطبهن وتتودد لهن. الخوف أحيانا أن يطغى الإخراج والإبهار على الأزياء نفسها، فينصب الحديث والتغطيات على الأولى عوض الثانية، وهو ما أشار إليه مايكل بورك، الرئيس التنفيذي لـ«لوي فويتون»، في لقاء له مع عمران خان، مؤسس موقع «بيزنيس أوف فاشن»، مشيرا إلى أن الدار حققت ما يشبه المعجزة في مجال الأزياء، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنها لم تدخل هذا المجال سوى منذ 15 عاما.
وأضاف أنها في عهد مارك جايكوبس، أثارت الكثير من الانتباه إليها «إلا أن العروض أصبحت شبه مسرحية، وربما غطت على الجانب التجاري للأزياء وعلى جمالها وعناصرها الأخرى التي سهرت على تنفيذها الأنامل الناعمة وحرفيو الدار». لكن برونو بافلوفسكي، الرئيس التنفيذي لدار «شانيل» كان له رأي مختلف تماما، حيث صرح في لقاء خاص مع «الشرق الأوسط» بأن هذه العروض جزء من استراتيجية الدار، لكن تبقى الأزياء هي الأهم، لأنها هي التي تجد طريقها في آخر المطاف إلى المحلات ومنها إلى الزبون.
ويضيف بكل ثقة أنه لا خوف من أن تطغى طريقة العرض عليها «لأن الإخراج المدهش لم يكن ليوجد أساسا، لولا قوة الأزياء والإبداع.. هذه القوة هي التي تمدنا بالجرأة لكي نقدم عروضا مبهرة».